بيان الرئاسة الجزائرية وصناعة الجريمة
بيان الرئاسة الجزائرية وصناعة الجريمة


أصدرت رئاسة الجمهورية الجزائرية يوم 3 نونبر 2021 على الساعة 07:45 بيانا هاما على صفحتها الرسمية بمنصة الفايسبوك، يتعلق بمقتل السائقين الجزائريين الثلاثة الذين لقوا مصرعهم على الحدود بين المغرب والجزائر، تتهم من خلاله المغرب ارتكابه لجريمة ارهاب دولة بقتل هؤلاء السائقين الأبرياء. كيف صاغت الرئاسة الجزائرية اتهامها في البيان؟ وماهي الخلفيات الايديولوجية التي استند عليها البيان في تمثل (representation)  الجريمة؟ وكيف صاغ البيان الأدلة الجنائية التي تدين المغرب؟   
يتكون نص البيان من أربع أجزاء مقتضبة، تصنع حجاج الرئاسة الجزائرية ضد المغرب، وكل جزء يتضمن بنيات عامة (macrostrctures)، يتم التفصيل فيها بشكل مقتضب، وإليكم بعجالة تلك البنيات المكونة لهيكل النص كالتالي: 
م1- اغتيال سائقين جزائريين يوم ذكرى التحرير الوطني 
م2- الحركة التجارية حق يكفله القانون الدولي بين الشعوب
م3- اتخذت السلطات الجزائرية التدابير اللازمة للتحقيق في الحادث
م4- قوات الاحتلال المغربي ضالعة في ارتكاب الجريمة
م5- لن يمر الاغتيال دون عقاب
إذا تأمل القارئ البنيات العامة لحجاج نص البيان، سيجده ضعيفا جدا، لأنه يفتقر لبنيات الادانة، وهي تلك الأدلة الجنائية الملموسة التي تدين الفاعل، اذ يتحدث البيان عن تدابير للتحقيق، وليس عن نتائج نهائية لتحقيق جنائي اجرته سلطات مختصة، وخلصت لأدلة ملموسة تدين المغرب، كما أن البيان استخدم مقدمة حول ذكرى التحرير الوطني، لمقاربة حدث الاغتيال بأنه هجوم على مقدسات الأمة الجزائرية، مما يضفي القصد الجنائي على الحدث، ويقصي معنى الحادث العرضي من النص، وهكذا بفضل المزج بين الفكرتين، يستطيع النص تجييش عواطف القارئ، وصناعة خطاب المظلومية. 
تتلخص البنية العامة الكبرى للنص في ما يلي: " إن اغتيال المغرب للسائقين الجزائريين لن يمر دون عقاب"، وهي الفكرة المحورية في الخطاب.
 وقصد إقناع المخاطب وتوجيه قراءته للنص نحو معاني مشفرة، اعتمد نص البيان تقنية التضاد البنيوي (structural opposition)  بين حادث الاغتيال وذكرى التحرير الوطني، فقام بصناعة تضاد لغوي على الشكل الآتي: 
-          الطمأنينة والسعادة vs الفزع والحزن الذي حول الاحتفال الى مأتم. 
-        نحن- الجزائر vs هم -المغرب
التضاد البنيوي الأول:
 لبناء هذا التضاد، تم وضع التقابل الآتي بين الالفاظ في النص: 
-        احتفال مجيد vs اغتيال جبان
-        البهجة والسكينة vs قصف همجي
التضاد البنيوي الثاني: 
-        نحن vs هم  (Us vs Them) 
هذه ثنائية مألوفة في النصوص الحجاجية، حيث تنسب الميزات الايجابية "لنحن"، وينعت الآخر بكل ما هو سلبي في رأي الأنا، وهكذا يضع النص مجموعة من المواصفات في شكل استقطاب polarization بين الجزائر والمغرب. الجزائر هي قلعة قيم، ومبادئ، وثورة مجيدة، وتاريخ أبدي، وبلد الشهداء، والبراءة
VS                                                      
المغرب هو ذلك المحتل، الجبان، والعدو المتوحش، التوسعي، والإرهابي {كل الألفاظ الواردة هنا مأخوذة من النص}.
إن اختيار المعجم، يدل بشكل واضح على أن الرئاسة  الجزائرية، تصنف المغرب باعتباره عدوا بدون قيم أو اخلاق، وبأنه بربري، وتنزع عنه صفات الدولة الوطنية، وبلد المؤسسات، وهذه النظرة الطهرانية للوجود، والمشيطنة للخصوم، لا تمثل سياسة بركامتيه تتعامل بها دولة مثل الجزائر، وانما تستخدم استقطابا بالي النموذج مازال منحصرا في بعض حركات الاسلام السياسي التي تدعي الطهرانية، والنقاء والبراءة.
إن المثير في البيان هو تغليف الخبر بمعجم وحجاج عاطفي، حتى لا يتمكن القارئ من اكتشاف المغالطات التي اتى بها النص، وهي تتعلق بفكرتين محوريتين، اولهما فكرة "التحقيق" والثانية فكرة "العقاب".
1-    التحقيق:
هل اجرت السلطات الجزائرية تحقيقا جنائيا في الحادث؟ 
لقد هرول البيان إلى ادانة المغرب في الفقرة الاولى قبل أن يتحدث عن التحقيق، ولما ذكر البيان التحقيق، فهو لم يبدأ بعد، كما جاء في البيان: " اتخذت التدابير اللازمة للتحقيق"، إذن، كيف توصلت الرئاسة الجزائرية لهذه النتائج؟ يتحدث البيان عن "ضلوع" المغرب في الاغتيال، فهل سقط هذا اللفظ سهوا في النص أم هو معنى مقصود؟ إن كلمة "ضلوع" تعني المشاركة، وليس القيام الأحادي الجانب بالفعل، فمن المسؤول عن الاغتيال إذن؟ يتحدث البيان كذلك عن "عناصر" الإدانة، ولا يسميها، أو يذكر امثلة منها، فهل هي عناصر ام أدلة ثبوتية؟ ويتحدث البيان عن "سلاح متطور"، دون الكشف عن النوع والتدقيق في هوية السلاح، ولا يتحدث البيان عن الضحايا ومصير جثتهم المختفية، فلماذا استخدم نص البيان معجم عام فضفاض مليء بالإبهام (ambiguities)، وابتعد عن المعجم الدقيق الملموس؟ أليس هذا دليل مادي أن البيان لا يتوفر على ادلة دقيقة يعزز بها خطاب الإدانة؟
2  - العقاب:
ترى من سيعاقب من؟ مادام المغرب قد ارتكب جريمة تهدد سلامة التجارة الدولية، فهذا من اختصاص المحاكم الدولية للبث في قضاياها، وليس من اختصاص الجزائر أن تصدر أحكام العقاب؟ يتحدث البيان بلغة العقاب، ويمثل الجزائر بوصفها قوة اقليمية ضاربة في المنطقة، تضاهي الولايات المتحدة في خرجاتها التأديبية للدول المارقة، وهكذا فإن الجزائر بشمال افريقيا ستخرج قريبا لتأديب دولة الاحتلال على حد قول البيان. هل ستفعل الجزائر ما تفعله امريكا، وتؤدب المغرب وتعاقبه على تهوره هذا بقتل السائقين على حد زعمها؟ أليست هذه خاتمة بيان تثير سخرية القارئ الجزائري المتنور والأجنبي معا؟ ترى ماهي الوسائل المتطورة التي تمتلكها الجزائر والتي تستطيع بفضلها تأديب الدول؟ هل تمتلك الجزائر القوة العسكرية الخاصة بتأديب الدول؟ هل تمتلك الجزائر قوة القرار التأديبي للدول؟ هل تعتبر الجزائر في الوقت الراهن دولة ذات سيادة وقرار مستقل؟ هذا بيان دولة تقتني خردة اسلحة من روسيا، فما بالك لو كانت الجزائر مشتلا يصنع الأسلحة المتطورة الفتاكة؟
 
 مع الأسف، هذا بيان يلخص لنا كيف هي تلك الطاقات والكفاءاة البشرية بالجزائر وباقي دول العالم العربي، يتم هدرها في تطاحنات ومشاحانات سيزيفية، بدلا من استثمارها في بناء نهضة شعوب المنطقة.

ذ، محمد معروف ، جامعة شعيب الدكالي
 





 

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة