حديقة محمد الخامس بالجديدة.. ذاكرة للتخريب
حديقة محمد الخامس بالجديدة.. ذاكرة للتخريب

إن حديقة محمد الخامس بالجديدة ليست ككل الحدائق، فهذه الحديقة حبلى بعبق التاريخ المغربي المعاصر، ويكفي أنها ارتبطت باسمين كبيرين في الذاكرة الوطنية المغربية هما الماريشالليوطي و المغفور له الملك محمد الخامس.

انطلقت الحياة الأولى للحديقة مع مرور "الماريشال ليوطي" في 19 يوليوز 1913 بمدينة الجديدة. وفي نفس مكان هذه الحديقة أعلن عن رغبته في أن تصبح مدينة الجديدة بمثابة مدينة " الدوفيل '' السياحية الفرنسية، ولازالت الحديقة تحتضن روح هذا الرجل القوي والمحنك من خلال لوحة تذكارية بأحد الجدران المهملة من الحديقة.

إن تشييد هذه الحديقة بمحاذاة الشاطئ وجعلها فضاء لتعايش نباتات وأشجار تم استقدامها من عدة مناطق من المعمور ،وتأثيثها بحوضين مائيين احتضنا حياة أسماك متنوعة، ومرافق للاستجمام البحري وتوفير كل شروط الراحة والترفيه، مكن من تحقيق رغبة "ليوطي "في أن تمتهن مدينة الجديدة الوظيفة السياحية وأن تستثمر قربها من العاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء والعاصمة الإدارية الرباط لتقدم خدمات السياحة والاستجمام للأطر الإدارية ورجال الأعمال بالمغرب.

وطيلة فترة الحماية الفرنسية، استطاعت هذه الحديقة أن تلعب دورها في تنشيط المجال السياحي بالمدينة.وهذا ما جعلها تحظى بالعناية الشاملة من قبل السلطات المحلية وبالاحترام التام من قبل ساكنة المدينة وزائريها.

انطلقت الحياة الثانية للحديقة وهي تتنفس روح الاستقلال الوطني بتبني إسم الملك الراحل المغفور له محمد الخامس أب الوطنية المغربية. إلا أن لا تشريفها بحمل إسم هذا الملك العظيم ولا تنشيطها للحياة السياحية والاجتماعية بالمدينة قد شفع لها في أن تحافظ على رونقها ومرافقها وتقدم خدماتها وفق الجودة المطلوبة .

لقد احتضنت الحديقة نصبا تذكاريا مزين بمجسم نحاسي للملك محمد الخامس، قبل أن تقتلعه أيادي ماكرة في غفلة من الضمائر الحية بالمدينة منذ سنوات خلت. ومنذ ذاك الحين لم يتم بعد تعويضه صونا لذاكرة الحديقة واخلاصا لذاكرة أب الوطنية المغربية.

إن سرقة المجسم النحاسي للملك محمد الخامس كان إعلانا بينا عن موت الحديقة كفضاء طبيعي وعن دخولها مرحلة الموت السريري، فأصبحت جثة هامدة تحتفظ بمعالم الجسد الذي بدأت تتسلل منه روح الحياة. فمنذ تسعينيات القرن الماضي دخلت الحديقة مرحلة التدهور. إذ تم تحويل وظيفتها إلى أنشطة لا تنسجم مع بنيتها وهندستها وروحها الإيكولوجية. وهكذا، وعن جهل مطبق، تم توظيفها بمنطق الساحة العمومية، لتستقبل الحفلات والسهرات ذات الاستقطاب الجماهيري الكبير. وهذا ما استقطب خدمات هامشية ذات طابع عشوائي من قبيل انتشار الباعة المتجولون ليلا ومقدمي خدمات اللعب الصينية للأطفال نهارا.

جر هذا التحول الوظيفي على الحديقة، ذات التاريخ الشامخ والمحتضنة لعبق الزمن الجميل للمدينة، أن اقتلعت أشجارها ونباتاتها الفريدة وكراسيها وعم الخراب مختلف مرافق الراحة والاستجمام وعمها الإسفلت بشكل جد مشوه، كما أصبحت بدون عناية بيئية ولا حراسة ولا نظام وقبلة للمتشردين....

ولا زال العبث يطال ما تبقى من معالم هذه الحديقة التاريخية، ولازال الترامي مستمرا على مجالها بأنشطة تطال من وظيفتها السياحية والاجتماعية ومن جمالها ورونقها. إذ يتم توظيفها في هذه الأيام كفضاء لاحتضان دوري للكرة الشاطئية. فتم هتك عرضها بإقامة ملاعب رملية، سيتطلب إحداثها أطنان ضخمة من الرمال الشاطئية والتي لا نعلم لا مصدرها  ولا أثرها على البيئة الساحلية بالإقليم.

إن هذا التعامل البراغماتي الضيق مع هذا الفضاء الطبيعي والتاريخي والسياحي، ينم عن جهل مطبق بالرأسمال المادي واللامادي الذي تكتنزه هذه المعلمة الطبيعية، وبالتالي يفوت على المدينة فرص التنمية الاقتصادية والبشرية في تناغم مع جمالية المحيط الطبيعي وعبق التاريخ الوطني.

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة