ثيمة الماء في المخيال الشعبي المغربي / هشام بن الشاوي
ثيمة الماء في المخيال الشعبي المغربي / هشام بن الشاوي


"احتل الماء في الحضارة والتراث الإسلاميين مكانة عظيمة، وتبدو مكانته هذه بجلاء من خلال اهتمام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بهذا السائل المبارك، باعتباره أصل الحياة كلها"، وقد ارتبط الماء بحياة البشر ارتباطا وثيقا، وتكمن أهميته في ضرورته لاستمرار الحياة، فهو أصلها ومنشؤها بالسند القرآني، وقد تجاوزت مساهمته في الحياة حدود الاستعمال اليومي، وما يرتبط به من أمور العبادات والحاجات اليومية من شرب، وطهارة ووضوء ليتجلى في خوارق وكرامات وخرافات تضمنت مجموعة  من الدلالات الرمزية ذات الأبعاد الاجتماعية والخلفيات التربوية والدينية، ولعل ذلك مرده إلى أن الإنسان لم يعرف أصل الماء في الوقت الذي أدرك أهميته الكبيرة وحاجته الماسة والمستمرة إليه فأحاطه بهالة من التقديس وصنع حوله كما من القصص والاعتقادات، بتعبير فاطمة الزهراء الدبياني.
حسب المعتقد الشعبي تظل "الولية" فاعلة في حياة من يزورها بعد وفاتها وبركتها لا تنقطع بحدث غيابها الجسدي، ومكان دفنها- ضريحها- يصبح مكانا للتبرك والتضرع به والحج إليه طمعًا في قضاء الحوائج.
فعائشة البحرية مثلا، وكما تروي الأسطورة، قدمت من المشرق للقاء الولي مولاي بوشعيب، المعروف بمول السارية، قرب الجديدة (90 كلم جنوب البيضاء) بأزمور قصد الزواج منه، ولكنها غرقت بمصب وادي أم الربيع لتدفن عند المصب، قرب ملتقى النهر  والبحر.
هذا المصير التراجيدي لامرأة قطعت مسافات طويلة للقاء أحد أولياء الله (الولي بوشعيب) قصد الزواج منه سيضفي على عائشة هيبة في النفوس وسيصبح ضريحها مزارًا للنساء الباحثات عن الزواج والمعتقدات في قدرتها على جلب السعد، الذي هو الرجل.
 منحت المعتقدات الشعبية لهذه المرأة قدرةً على جلب الزوج، وهي التي لم تستطع أن تحقق أمنيتها بالزواج. هنا نلاحظ كيف حوّل المخيال الشعبي مسار الحياة العادية لامرأة إلى كرامة تعمل على تحقيق ما عجزت عن تحقيقه هي بنفسها في الواقع.
وهو ما نلاحظه في حالة الولي بوشعيب كذلك، الذي اشتهر بلقب "عطاي لعزارا" لقدرته على تحقيق رغبة النساء بإنجاب الذكور، رغم أنه ظل عازبًا، هكذا تحولت العزوبية إلى إنتاج قداسة وتبرك نقيض.
وأسست المعتقدات الشعبية لتخصص لكل واحد من هاتين الشخصيتين، التي شاءت الأقدار أن تفرق بينهما في موقف تراجيدي ليصبح مختصًا في النساء وأحوالهن العائلية. كل واحد تأتيه النساء محملات بالهدايا متوسلات ببركته وخاضعات لطقوس مقننة قصد الوصول إلى المبتغى، وإذا تحقق المطلوب تنشأ علاقة تعاقدية بين الطرفين، إذ أن المرأة التي تزوجت أو أنجبت ستحمل في عمقها تقديرًا وعرفانًا دفينًا للولية، وقد تواصل زيارتها للتبرك والامتنان، بل تصبح هذه الزيارة واجبًا على المرأة إن هي أرادت استمرارية مفعول بركة الولية وتجنب  غضبها.
والنساء الزائرات "للّا عايشة البحرية" أو "عائشة مولات لمواج" أو "للّا يط"و أو "عائشة السودانية"، يخضعن لطقوس وممارسة معينة إبان الزيارة إن هن أردن أن يتحقق طلبهن المرتبط دوما بالزواج.
لا يتوقف الأمر عند مجرد التبرك والتضرع، بل إخضاع الجسد لطقوس معينة، فبالنسبة إلى للا عايشة البحرية مثلا،  على المرأة العاقر أن تمرر على جسدها الحناء الممزوجة بماء البحر، وبعد ذلك تغتسل -بمساعدة المشرفة على الضريح، المقدمة- بماء سبع أمواج متتابعات، وعند الانتهاء تتخلى عن بعض لباسها الداخلي، وبعد ذلك تمنحها المقدمة حزامًا أخضر عليها أن تضعه.
ومنهن من يجب عليها أن تستحم في خلوة وتهجر ملابسها الداخلية وتخطو فوق بخور سبع خطوات، ومنهم من يقمن بالاغتسال قرب الضريح ويكتبن أسماء عشاقهن أو من يراد الزواج بهم.
يتداخل في هذه الطقوس المرتبطة بزيارة الأضرحة ما هو ديني مع ما هو سحري، والممارسات والطقوس التي كانت سائدة في  الجزيرة العربية وشمال إفريقيا والبلدان الأخرى.
إن بعض نماذج القداسة النسائية وثيقة الارتباط بالماء، والماء يحضر بقوة كرمز للطهارة بالنسبة للنساء، فالأمواج والماء تطهر من النحس، فحين تأتي الزائرات لعائشة مولات لمواج، فعلى  الموجة أن تحمل هداياهن للولية عربونا لقبولها زيارتهن ويغتسلن كذلك بماء الحوض، الذي يوجد فيه حجر ينسب إلى الولية.
تتكثف صورة الماء في المخيال الشعبي من مادة مطهرة إلى مسكن للقوى الخفية.  وفي جل الحضارات كان البحر والبحيرات موضع أساطير تروي عن كائنات غريبة تخرج من الماء، وظهرت عبادات منابع المياه والمغارات في المغرب، كما ورد لدى هنري باسي في كتابه حول الطقوس التي تمارس أمام المغارات في المغرب منذ عهد الرومان إلى بداية القرن العشرين. إن بعض منابع وعيون المياه لم تتحول إلى أماكن مقدسة وذات بركة إلا بعد دخول الإسلام بقرون، فالأمر يتعلق باستمرارية شروط وضرورية حضور الماء في الطقوس.لقد قام جون لويس كادو بوضع تصنيفين للماء :الماء المقدس وماء الولاية، وإذا اعتمدنا  ترجمتنا والمرجعية الإسلامية، فالقداسة بالنسبة له ترتبط بكل ماهو وثني والولاية بكل ماهو مسيحي. إن الماء يستقي ويجد خصوصيته المقدسة من الولي الصالح الذي يوجد قربه، سواء القدرة على الشفاء أو جلب السعد، فهو المانح لهذا الماء قدسيته لأنه يدخل في كرامات وخوارق العادات التي تميز الولي عن باقي البشر. ويعد الماء من المواد الأكثر استعمالا من قبل العامة من أجل ربط الاتصال الملموس والتبرك بالولي،  فضلا عن كونه يتمتع بالصفاء والشفافية التي تضفي عليه طاقة في تحقيق التواصل المادي والروحي مع الولي؛ فالمجتمعات المغاربية تتعهد على هامش التصورات الإسلامية المهيمنة "شبكة بكاملها من المعتقدات الوثنية … تقر هذه المعتقدات بوجود جماعة لا مرئية من الجن لها قدرات فوق بشرية، ومن أجل تحييدها، يلزم كسب ثقة هذه الكائنات…وتوقير الأماكن التي يعتقد أنها تقيم بها مثل السراديب المظلمة، والأمكنة المعتمة، ومجاري الأنهار، والمياه الآسنة الراكدة… إلخ، وبالضبط في أوقات محددة من اليوم كالفجر والزوال والغروب"، بتعبير مالك شبل.


الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة