استرجاع ذكريات خالدة من احتفالات مدينة الجديدة بعيد العرش
استرجاع ذكريات خالدة من احتفالات مدينة الجديدة بعيد العرش

أتوقف في هذه المحطة لأعتصر الذاكرة بعض الشيء علّها تجود علي باسترجاع ذكريات من احتفالات عيد العرش المجيد الذي كان يصادف 3 مارس من كل سنة، تاريخ جلوس المرحوم جلالة الملك الحسن الثاني على عرش أسلافه الميامين.

وبالقدر الذي كان عيد العرش بحمولة رمزية كبيرة في قلوب كل المغاربة، كان رعايا الملك بالجديدة وباقي الإقليم يتفردون بتخليده بطقوسهم الخاصة، للدرجة التي تبوؤوا فيها صدارة المحتفلين على الصعيد الوطني، وجعلت الملك يقرر في سنة 1994 تنظيم  احتفالات عيد شبابه

بحديقة محمد الخامس بالجديدة .

أذكر أن الاستعدادات لعيد العرش تبدأ قبل حلوله بأزيد من شهرين، باجتماع بالقاعة الكبرى للبلدية يترأسه الباشا الحديدي المرحوم مولاي الطيب العلوي ويحضره إلى جانبه رجال السلطة ومنتخبون وأعيان المدينة وأرباب الحرف وتجار ومهنيون، يستعرضون على مسامع الباشا مشاريع برامجهم التنشيطية المزمع القيام بها بمناسبة العيد المجيد .

وذات مرة ونحن نحضر للعروض سالفة الذكر، جاء الدور على أمين إحدى الحرف وعمره في الستينات وبعد ان شرّف سعادة الباشا بما يليق به من فروض الاحترام، استطرد قائلا "إذا سمح لي السيد الباشا إحاطته علما، أننا في السنوات السابقة كنا نستقدم فرقا موسيقية من زيان وزاوية الشيخ، لكن المكان الذي نقيم فيه الاحتفال ب"كراج الرامي" بشارع محمد الخامس لا يستوعب حشد المتوافدين عليه، لذلك قررنا هذه السنة أن نعدل عن تلك الفرق الموسيقية، وسنعوضها ب"الطُلبة" (بضم الطاء)"، قطب الباشا جبينه وانبرى له في غضب شديد "اسمع مزيان حتى تموت مك وديرو الطُلبة ".

وبمجرد أن ينفض الاجتماع مع الباشا، تتحول المدينة ورشا كبيرا للتزيين وتغيير الملامح وتبدأ عملية صناعة أقواس النصر بميناء الجديدة، في انتظار تثبيتها قرب المسرح البلدي وبشارع محمد الخامس وقرب إقامة العامل وبمدخل المدينة جهة الدارالبيضاء مزركشة بألوان خلابة ، ومكتوب عليها بمصابيح خضراء وحمراء الله الوطن الملك .

بينما كل الساكنة تجدها مناسبة سنوية لتبييض واجهات منازلها ومحالها التجارية ، وهي كلها أعمال مواكبة لحملات نظافة بشاطئ الجديدة وسيدي بوزيد.

لم تكن اللافتات بلاستيكية كما الحال الآن، بل يكتبها خطاطون مهرة في مقدمتهم اللباط وإخوة له مهرة في الخط  بزاوية للا زهرة ، ومضامين اللافتات تمر من مكتب الباشا في إطار لجنة كانت تحمل يومذاك اسم لجنة الابتكار وتضم مفتشين في اللغة العربية وأساتذة اجتماعيات والنائب الإقليمي لوزارة التربية الوطنية ، وهي تفتحص المضامين المذكورة وخلوها من أخطاء لغوية قبل عرضها للعموم ، وتختار لها أماكن معروفة وبادية للعيان .

 

كانت اللافتات في الغالب من الثوب الأبيض لذلك تنشط عملية بيعه بقيسارية ناهون بشكل لافت للانتباه .

وقبل العيد بشهر ينشط أمناء الحرف ورؤساء الجمعيات المهنية في جمع مبالغ مالية استعدادا للإنفاق على يوم العيد من حلويات عادة كانت تستقدم من بائع شهير بالحبوس بالبيضاء يدعى بنيس، كما تتم الاستعانة بخدمات نساء بارعات في صنع حلويات متنوعة في مقدمتها كعب الغزال والغريبة .

وبقية تراب الإقليم وخاصة في الجماعات القروية كان المحتفلون يذبحون الثيران ويقيمون أعراسا حقيقية تناسب مقام الذكرى وصاحبها.

وكانت الدارالبيضاء وسطات وتادلة وزيان وآسفي، وجهات مفضلة لأمناء الحرف لاستقدام فرق موسيقية شعبية شهيرة ، وعادة  ما كانوا يتباهون باستقدام من تسبقهم شهرتهم، نظير الشيخ صالح لمزابي والحمونية والصاحب بن المعطي وبنت النكاسة من الزمامرة وولد خلوق من سيدي بنور ومن الجديدة كان رواد يؤثتون السهرات ومنهم الحاجة سعاد وكيلا والموتشو والخودة .

وعندما يحل يوم العيد وفي الصباح منه تشهد ساحة البريد الفسيحة التي تم تضييقها اليوم بشكل مشوه ورهيب، استعراضا لفرقة 55 والماجوريت وهن فتيات بلباس أوربي متناسق يقمن بحركات منتظمة وشبه عسكرية، وكانت الجديدة وحدها التي تنفرد بمثل هذه الفرقة والدعوة في مربع معاذ الجامعي عامل الإقليم واللجنة الإقليمية للشؤون الثقافية لإعادة إحياء هذه الفرقة ، بمقابل ذلك  تكون خيام قيادية انتصبت بنظام عند ساحتي حسبان والخياري بينما أخذت الكثير من المحلات بشارع محمد الخامس حظها من التزيين .

وعادة ما كان عبدالحق الفاتحي والمختار طارق، شافاهما الله، يؤثثان حفلة أرباب المقاهي والفنادق بمزاجهما المرح . فيما كانت كل مؤسسة تعليمية تقيم احتفالا خاصا بها ، ويجتمع الأساتذة والإدارة التربوية حول موائد شاي وحلويات ، ولا ينفض لهم جمع إلا بعد الإنصات للخطاب الملكي .

وكانت بعض المؤسسات التعليمية تقيم حفلات غذاء فيما بين العاملين بها ، دون أن يخلو ذلك من طرائف ، وتحضرني تفاصيل حكاية مثيرة تعود إلى أكثر من 27 سنة ، مسرحها مجموعة مدرسية بتراب دائرة أزمور ، وغن لم تخني الذاكرة بالضبط بمنطقة بوسدرة وسط بساتين الحامض المترامية على الضفة اليسرى لنهر ام الربيع ، كانت المجموعة المدرسية تحت إمرة مدير مديد القامة قوي البنية يتحدر أصلا من اولاد افرج، كان في ملامحه بل في كل شيء نسخة طبق الأصل من الزعيم القومي جمال عبدالناصر ، هو مدير يتكلم دائما باللغة الفصحى ، ولم يعرف عنه حتى بين الناس أنه تكلم بالدارجة ، ويحكى أنه تخاصم مع شخص أمي ، باللغة الفصحى ، هذا الأخير صاح شهدوا أعباد الله كيعايرنيبالفرانساوية .

وذات يوم كانت المدرسة قررت ان تحتفل كباقي المؤسسات في يوم 3 مارس بذكرى عيد العرش .

اتفق المعلمون والمعلمات على مساهمة نقدية لشراء حلويات ومشروبات وتهيئ وجبة غذاء ، وقبل ثلاثة أيام عقدوا اجتماعا ، حضره إلى جانبهم مدير المدرسة ، أخذ الكلمة من بينهم معلم لم يكن على علاقة طيبة بالمدير ، وكان هو من تكلف بجمع المساهمات من أصدقائه ، وبعد أن استعرض الترتيبات المتخذة لإنجاح الحفل ، وصل إلى وجبة الغذاء المقررة ، وبما أنه يعرف جيدا أن المدير يهوى اكل البطاطس ، قال المعلم لقد اتفقنا على الدجاج بالزيتون ، هنا ثارت ثائرة المدير ليقاطع المعلم الدجاج بالزيتون والبطاطس .

تمسك المعلم بالدجاج والزيتون بدون بطاطس ، وطلب ان تعرض الأكلة التي اختارها على التصويت ، لما خرج المدير خائبا بدون بطاطس ، أرغى سيادته وأزبد وأقسم بيمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار ، مخاطبا المعلم / دابا تشوف البطاطا إن شاء الله فين غادا توصلك .

منذ ذلك اليوم ازدادت العلاقة سوءا بين المعلم والمدير ، هذا الأخير ظل يتحين الفرصة للإيقاع به ، وتأتى له ذلك حين تمادى المعلم في الغياب ، ولم يترك مناسبة لتوسيخ ملفه الإداري أمام النائب والمفتشين ، إلى أن تقررعرضه على المجلس التأديبي الذي قرر في حقه الفصل عن العمل .

كم كانت فرحة المدير كبيرة لا تضاهيها فرحة ، لما زار النيابة وعاد إلى مجموعته المدرسية يتأبط  قرار فصل المعلم ن بل لم يتوان على تعليقه بالسبورة الحائطية ، كما لو انه يحيط عامة المعلمين والمعلمات ألا يعارضوا مستقبلا أكلة البطاطس ولسان حاله يردد مع الشحرورة صباح بطاطا يا بطاطا يا عيني على البطاطا .

وكان متتبعون يرون في عيد العرش في وقت لم تكن فيه مهرجانات ، يرون فيه مهرجانا حقيقيا للأغنية الشعبية يرفه على عموم الساكنة التي تتقاطر على الحفلات ولا تبرحها إلا في الساعات الأولى لليوم الموالي ل3 مارس ، بينما ترى البعض منهم وخاصة الذين يفدون من البوادي يحملون آلات تسجيل لتوثيق أغان شعبية .

كان الناس وكما في الصور المرافقة لهذه النوستالجيا ، يصطفون أمام الحفلات في نظام بديع دون حاجة إلى قوات عمومية ، خلف أعيان المدينة ورجال السلطة في انتظار موكب العامل بينما تختار طفلات صغيرات لتقديم باقات زهور إلى ممثل الملك .

وكان عبداللطيف سعد مدير ديوان عمال متعاقبين ، يسرع الخطى عادة لضبط النظام المطلوب

والعيد بالنسبة لتلاميذ المدارس لم يكن يوما واحدا فقط بل عادة ما كان مناسبة لنا للهروب من مقاعد الدراسة قبل حلوله بثلاثة أيام ، ولم نكن أبدا نتعرض للمساءلة عن الغياب ، مادام الأمر يندرج ضمن فرحة سابقة للعيد .

لكن أذكر انه في سنة 1970 كان مدير ثانوية أبي شعيب الدكالي ، أصدر أوامره كي يشارك التلاميذ في استعراض العيد ، وكان أن تخلف البعض منهم فوجدوا في انتظارهم المدير أحمد الحطاب رحمه الله ابن العلامة الفقيه الحطاب صبيحة يوم الاثنين الموالي ، والذي قام بحلق رؤوسهم أمام زملائهم الذين حضروا الاستعراض ، جزاء لهم على غياب غير مبرر عن حدث العيد .

والعيد أيضا مناسبة لإطلاق مشاريع تنموية ، كان منها جامعة شعيب الدكالي والمدرسة الفندقية والمستشفى المتعدد التخصصات وثانوية الرازي التقنية وعدد كبير من المشاريع التي مكنت الجديدة والإقليم من العبور السريع إلى الحداثة بمفهومها الصحيح .

عبد الله غيتومي





















الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة