رشيد وهابي يكتب.. ''العقلية التشريعية التقليدية وتحدي الذكاء الاصطناعي
رشيد وهابي يكتب.. ''العقلية التشريعية التقليدية وتحدي الذكاء الاصطناعي


كل يوم تطلع علينا الاخبار الجديدة التي لا تنتهي وتبهرك عن يوم الأمس بما اكتشفته من جديد في عوالم الذكاء الاصطناعي الساحرة، كل هذا جعلنا ندمن ونهتم بكل ما هو جديد في هذا العالم الذي أصبحنا نرى ونحس أن المهتمين بتفاصليه والجديد فيه، باتوا جوعى متلهفين راغبين في تناول هذا الطعام الجديد الذي لا تشبعه حتى الشراهة الأكلية التي توصل للتخمة، طعام فريد وجديد، تم تحضير كل محتوياته وتوابله بالذكاء الاصطناعي، بل حتى  الصحن والفرن الذي طبخ فيه أو الطباخ الذي أعده وأدخله للفرن، كلها وكلهم يعتمدون في طهيه على هذه التقنية الرائعة والمخيفة في نفس الوقت.
آخر ما قرأته عن هذا العالم الجديد، هو توجه دولة الامارات العربية المتحدة للاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج القوانين وهذا يعني أن هذا المارد الذي سيساعدها في إنتاج القوانين، لن ينسى أن يضع له موطأ قدم تُخبر عنه وعن عمله وجوانبه القانونية المعقدة التي يجب أن يحددها يرتب المسؤوليات عن كل خرق أو تجاوز لها أو عبث بها، وبقدر ما أعجبني الخبر وأثار في نفسي حب قراءة الخبر حتى آخر كلمة فيه، والاعجاب بهكذا تفكير وعمل، بنيانه يوجد في دولة في الشرق الأوسط، وأياديه الأخطبوطية المتعددة وعقله المتفتح المتلهف لقنص كل جديد  وتدريب دماغها  للانقضاض عليه والمتح من كنوزه  للبدأ بالعمل به ،  وتبحث عن كل جديد في عالم التقنية والذكاء الاصطناعي لتُعمله وتعمل به،  لكي تُقدم خدمات لمواطنيها  تكون في أحسن صورة وأسرع وقت وبأدق تفاصيله، وهو نفس القدر لكن من الأسف الذي جعلني أشعر بالأسى على بلادنا، التي أصبح الكثير من مواطنيها يفطرون ويتغذون ويتعشون بخدمات الذكاء الاصطناعي وبأخباره التي لا تنتهي، حتى أن باتوا بحب استطلاعهم وتطلعاتهم لاستعمال تقنياته وأنظمته الجديدة يصنفون في سلم العاملين بتقنياته من أوائل الدول المستعملين له، متجاوزين في ذلك أمم ودول كبيرة ومتقدمة، وهذا الزخم الشعبي  المغربي بهذه الأدوات،  مع الأسف الشديد  يقابله إهمال وتهاون كبير أو لنخفف العبارة ونقول تباطئ كبير في مسايرة الدولة  بقوانينها ومؤسساتها ومرافقها بنفس السرعة التي يسير بها شغف المغاربة لاستكشاف عوالم الذكاء الاصطناعي والعمل بأدواته.
وحتى نضع عين الأصبع على موضوع مقالنا ولا ندعه يزيغ، سنحاول من خلال هذا المقال أن نتطرق لموضوع أغراني اهتمامي المتأخر بعالم الذكاء الاصطناعي أن أتكلم وأتطرق له وأثير انتباه المشرع الى أهمية التفكير فيه أثناء العمل على كل القوانين المقبلة، وهو: العقلية التشريعية وتحدي الذكاء الاصطناعي.
ففي الوقت الذي  نهضت دول كثيرة  نهضة رجل واحد متوتر من أجل التشريع لقوانين تنظم حقل الذكاء الاصطناعي، وتنظم جميع جوانبه ، وتحين جميع قوانينها الموضوعية والاجرائية لكي   تتكامل وتتعاون  مع أدوات الذكاء الاصطناعي ولا تصبح في تقاطع وتضاد معه، بدون تفريط وبتحديد رادع وواضح محدد للمسؤوليات عن كل استعمال لهذه الآليات سواء  كان المستعمل فردا أو إدارة أو شركة، أقف في هذه الجهة من بلدنا العزيز محتارا وغير مصدق، أن قوانين مغربية يتم تعديلها  حاليا، لم تتم الإشارة  فيها، ولو من باب التلميح الى مصطلح الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، أو حتى من باب الترصيص بالتنصيص عليه في باب خاص به ، وتحديد كيفية العمل به من طرف القاضي أو المحامي أو الموظف أو من طرف المتقاضي، وتوضيح  حدود المسؤولية المدنية أو الجنائية  لكل طرف استعمله بسوء نية أو تلاعب وعبث بمخرجاته لكي يكسب قضية تنظر أمام القضاء، أو اعتمد عليه في مقالته أو مذكراته  دون الإشارة الى ذلك والتدليل على ذلك.
فلنورد مثالا على ما طرحناه،  ونرجع الخطى على مشروع قانون المسطرة المدنية الذي تمت المصادقة عليه من طرف مجلس النواب، وأصبح معروض حاليا على مجلس المستشارين، والذي سيرهن إجراءات التقاضي في المملكة المغربية لعقود قادمة، فالملاحظ أنه رغم أن تعديله جاء في وقت يستعر فيها حر  الكلام عن الذكاء الاصطناعي وآفاقه التي ستساعد وتسرع وتدقق كل الأعمال التي توكل إليه   ، و رغم أن آذان العالم أجمع  صُمت بأخباره وفتوحاته اليومية،  نجد أن الساهرين على تعديلات هذا القانون ،وكأنني بهم قد أقفل عليهم في كهف لا أنترنت ولا أخبار ذكاء اصطناعي لوث سمعهم، وانتقادنا الظريف هذا لمدبجي هذه التعديلات ، جاء بعد أن وجدنا بعد  إطلالة سريعة على كل مواد هذا التعديل أن المشرع الذي يبغي تعديل قانون المسطرة المدنية،  لم يتطرق في هذه التعديلات للذكاء الاصطناعي بتاتا.
ولا نعرف سببا لهذا الإهمال أو التغييب، غير ما خلصنا إليه من خلال تتبعنا لمجريات التشريع ومعرفة بعض الذين عملوا على إنجازه وتحيينه، من كونهم لم يستطيعوا الانفكاك والاستقلال عن حبال الطريقة التقليدية والمحافظة في إنتاج التشريع في بلادنا، والتي أصبح يظهر أنها لا تواكب المستجدات ولا تعمل بعيون ومجاهر ذكية حلت في كل مكان محل التقليدية منها، إلا عندنا.
 ولا بد من الإشارة هاهنا، إلى أن العديد من الدول مثلا، بدأت تشير الى أدوات الذكاء الاصطناعي في قوانينها الجديدة، أو عملت على إرساء بعض جوانبها، ومازالت تجد وتجتهد لكي تقبط على لجام هذه الأدوات حتى لا تخرج عن طوعها وتصبح مضرة بالعباد ومصالح البلاد، ونذكر مثلا أن فرنسا سنت قانون وهو:           
( La Loi de programmation 2018-2022 et de réforme pour la justice( . 
 وهو قانون جاء من أجل إصلاح وبرمجة العدالة وفق رؤية عن الفترة من 2018-2022 وتم اعتماده سنة 2019، ويهدف إلى تحسين أداء نظام العدالة. وتبسيط الإجراءات باستخدام التكنولوجيا والرقمنة والذكاء الاصطناعي مشجعا على استخدام التكنولوجيا لتحسين العدالة.
 كما أن فرنسا نشرت قانون سمته قانون الجمهورية الرقمية، وهو قانون تم اعتماده سنة 2016، ويسمى أيضا باسم قانون لومير ( loi lomaire ) نسبة للوزيرة السابقة اوكسيل لومير التي اقترحته. 
 الذي منع في المادة 33 منه التنبأ بأحكام القضاة بناء على تحليل ونشر بيانات القضاة، وقرن هذا المنع بالعقاب، حتى لا تصبح آليات الذكاء الاصطناعي تتنبأ بحكم قاضي قبل أن يحكم به.
واعتبر أن هذه الأدوات التي تعتمد الذكاء الاصطناعي يمكنها أن تعمل كمساعد في البحث القانوني أو تنظيم الملفات، ولا يمكنها أن تحل محل السلطة التقديرية للقضاة أو المحامين أو تكون بديلا عنهم. 
ولا يمكن أن ننسى أن الدول الأوروبية، عملت سنة 2024 على إصدار قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي (EU AI Act) الذي بات يعتبر من أول الإطارات القانونية المهمة في العالم التي تنظم استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي (AI) داخل الاتحاد الأوروبي، وهو قانون يرمي من خلال بعض نصوصه إلى تنظيم حسن استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق آمنة، أخلاقية، وغير تمييزية، مع عدم تقييده للابتكار.
ولكن هذا القانون في طياته حذر من التأثير الذي يمكن أن يحدثه الذكاء الاصطناعي على نظام العدالة، لذلك نجد أن بعض نصوصه صنفت الأنظمة المستخدمة في العدالة "كأنظمة عالية الخطورة" (High-risk AI systems). 
ومن أجل تسييج نظام العدالة حتى لا تعبث أنظمة الذكاء الاصطناعي به، فرض هذا القانون التزامات صارمة على الشفافية، وعدم التمييز، وقابلية التفسير، قبل استخدام أدوات AI في القضاء.
لذلك فمن خلال هذا المقال ندق ناقوس الخطر، لنقول أن إخراج قانون للمسطرة المدنية في سنة 2025 دون أن يتكلم عن أدوات الذكاء الاصطناعي، وينص عليها ويشير إلى كيفية العمل بها ويحدد حدود هذا العمل ومسؤولية كل من يعمل بها من المخاطبين بنصوص المسطرة المدنية. خصوصا مع تواتر أخبار تفيد عمل بعض السادة القضاة والمحامين وموظفي المحاكم به، هو تقصير غير مقبول ستتبين سوءات توريته وحجبه عن نصوص هذا القانون، والأمل مازال معقودا، لكي يتدخل مجلس المستشارين وينص على نصوص تنظم استعمال هذه الأدوات كما فعلت وتفعل دول أخرى أزالت استعمال النظارات التقليدية في طريقة إنتاجها للتشريع، وعوضتها بنظارات ذكية تستشرف آفاق المستقبل، بعد أن علمت وتيقنت أن كل المؤشرات تؤكد أن الذكاء الاصطناعي سيكون اليوم وغدا هو سيد كل شيء.  


الأستاذ وهابي رشيد ..  المحامي بهيئة الجديدة

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة