إذا كانت كلمة العدالة ، تعتبر من ذخائر الكلمات التي تناولتها ألسنة العلماء والفلاسفة ورجال الدين منذ أن وجد الإنسان ، وكتبت حولها آلاف الكتب ، واعتبرت أساسا لتخريج كثير من الحكم والأشعار بل جعلت بعض الفلاسفة يذهبون إلى حد الكفر بوجود أية عدالة مثالية بين بني البشر ويؤمنون فقط بالعدالة الإلهية كواحدة لا شريك لها ومع ذلك ، فالكلام عن العدالة بهذه الكلمة المتواضعة لن يفيها حقها لأن كلمة العدالة تحمل حمولة كونية وتاريخية وقيميه ودينية ، ليست من السهولة بما كان أن تقربها إلى الأذهان كلمات مشتتة هنا أو كتب أو مقارعات هنا أو هناك .
وعلى عكس كلمة العدالة نجد أن كلمة التنمية تعتبر من الكلمات الجديدة التي اكتسحت عوالم المؤتمرات والندوات ، وأصبحت موضة الخطابات ، وأصبحت هي المبتدئ والمنتهي في كل التصورات ، وإذا كانت نبتة التنمية هي حديثة الزراعة ، لم تعرف بشكل مكثف في أواسط القرن الماضي ، فقد خبلت هذه الكلمة عقول رجال الاقتصاد والاجتماع وغزت قوانين العلماء وأصبحت ذرر الكلمات تدور في فلكها وتتبع المحور الذي ترسمه لهم هذه الكلمة العجيبة .
وإذا كنا في مقالنا المتواضع هذا لن نلبس عباءة الفيلسوف أو العالم الاجتماعي أو عالم الدين أو الاقتصاد ، الخ .
فإننا سنحاول جهد المستطاع أن نجيب على سؤال واحد قد تتفرع عنه أسئلة خلال الدخول في تفاصيل الموضوع وهو المتعلق بلون تأثير العدالة في التنمية بشكلها العام من أجل الاقتراب قليلا للإجابة عن هذا السؤال المطروح سنقسم مقالنا هذا إلى فقرتين ، الفقرة الأولى ، سنتكلم فيها قليلا عن العدالة والتنمية والفقرة الثانيــــــــة سنحاول خلالها أن نرصد دور العدالة في تحقيق التنمية .
الفقرة الأولى : بين رياح العدالة وشجرة التنمية :
اخترنا لمعشوقتنا في المقال مرافقتين لهما ،آثرنا أن تكونا من عالم الطبيعة اخترنا للعدالة صديقة لها هي الرياح ، واخترنا للتنمية الشجرة .
فالعدالة ككلمة من الصعب جدا أن نحصرها في قطاع معين أو مكان معين أو فئة معينة فوزارة العدل ليست بالضرورة هي الممثلة لأمة العدل في الدولة ، وإن كانت هذه الوزارة تشرف على قطاع مهم في الدولة ، هو قطاع القضاء ـ الذي يمكنه أن يحمل أعباء كبيرة من أعباء العدالة ويقوم بتوزيعها بشكل متساو بين أبناء الدولة ,والدولة بكل موظفيها وطاقمها المسير من جنود وشرطة ودرك وحكومة ... الخ ليست بالضرورة مرآة يتجلى فيها وجه العدالة وإن كانت تساهم بقدر مهم في إنضاج وسقي وإثمار نبته العدالة ، والله سبحانه وتعالى من بين الصفات التي اختص بها نفسه نجد اسم العدل وفي هذا اكبر دليل على قيمة العدالة في الدنيا والآخرة .
فالعدالة قد تعني الخير والمساواة والقانون في مواضع وقد تكون هذه الخصال الثلاثة في مواضع أخرى بعيدة كل البعد عن العدالة ، بل قد تتحول في أحيان كثيرة إلى مرايا عاكسة للظلم ، ونأخذ مثالا بسيطا على ذلك فالقانون ليس بالضرورة عادلا ففي كثير من الأحيان قد يكون القانون المسطر هو الظلم نفسه ، إذن فكلمة العدالة هي في حد ذاتها كلمة تعتبر نسبية إلى حد ما في تجلياتها في المكان والزمان وفي من يطبقها وفي من تطبق عليه ـ فالعدالة التي يجسدها القاضي في ملف معين ويعتقد أنه حققها ليست هي نفست العدالة التي كان ينتظرها الضحية من نفس الملف ، وليست بالضرورة هي نفس العدالة التي كان يتوق إليها المتهم ، وقد تكون مغايرة تماما لنظرة العدالة من وجهة ممثل الحق العام أو الجمهور المتابع للملف ، هذا تمثيل بسيط على محنة العدالة وتلونها في ملف واحد وفي قاعة واحدة بين أطراف متعددة كل ينظر إلى العدالة من وجهته الخاصة ، والعدالة في العلاقات الدولية كثيرا كذلك ما تجسد هذا التضارب والنسبية في النظرة إليها ، فما يعتبر مشروعا وعادلا بالنسبة لدولة أو شعب معين قد يعتبر ظالما بالنسبة لدولة أو شعب آخر ، فالعدالة في حقيقتها وتموجاتها من الصعب جدا أن تجد لها مقاسا دقيقا لكل البشر ولكل الأزمة والأمكنة .
ولكن مع ذلك هناك رياح تصدر عن العدالة لا يمكن للأغلبية إلا أن تؤمن بها وتؤكد على تجسدها المجرد وعلى فاعليتها ، ورياح العدالة هذه يجب أن تكون معتدلة تراعي أجواء كل بلد وعاداته وتقاليده وخصوصياته ، حتى تتمكن من تلقيح النباتات وتنعش الأشجار وتبعت الحياة في الطبيعة والبشر ، ورياح العدالة لايمكن أن تكون دائما معتدلة وخفيفة فقد تدعوا الضرورة إلى أن تتحول إلى عواصف هوجاء تقضي وتدمر بقوتها قلاع الظلم والشر ، فإذا كان الله سبحانه استخلف الإنسان في الأرض لإقامة العدل بين البشر فكثير ما نجد أن العدالة الإلهية تنزل لترجع الأمور إلى نصابها حينما تعجز العدالة البشرية عن إقامة العدل أو تتغاضى عن إقامته .
ورياح العدالة بالمعنى الذي تكلمنا عنه أعلاه إذا كانت فاعلة فلا شك في أنها ستسهم في حياة شجرة التنمية وسترعى رياح العدالة شجرة التنمية بالمحافظة على نموها ومهاجمة الحشرات أو الحيوانات التي تتربص بشجرة التنمية وتعايش نمو شجرة التنمية وتحرص على مراقبة ثمار شجرة التنمية حتى تكبر وتنضج لتبدأ رياح العدالة في تحريك آلياتها لتسقط هذه الثمار ليتناولها الإنسان ويستفيد بذلك من عدالة حاضنة مربية مراقبة وتنمية مثمرة منتجة .
الفقرة الثانية : العدالة كرافد مهم من روافد التنمية
إذا كانت التنمية بكل مفاهيمها الاقتصادية والبشرية والاجتماعية ترتكز على مجموعة من الأسس المهمة التي بها تكفل تحقيق رهاناها من مثل الإنسان والعلم فإن العدالة تعتبر أساسا سميكا لا مجال للاستغناء عنه لتحقيق آية تنمية كيف ما كانت ، وإذا كان هناك من قال بأن الاعتماد على العدالة في المرحلة الأولى لتحقيق التنمية هو ضرب من الخيال ، وبأن لاعدالة بدون تنمية ، وبأن التنمية يجب أن تحقق ارتقاء مهما لتبدأ بعد ذلك في الاعتماد على العدالة وتحقيقها ، فإن التجارب والتاريخ أبان زيف هذه النظرية { دول المعسكر الشرقي كنموذج } فالعدالة هي إكسير الحياة لكل تنمية ، فالأزمات الاقتصادية مثل التي عرفتها الدول الرأسمالية في النصف الثاني من القرن الماضي وتجلت في اهتزاز الاقتصاد وتوقف التنمية كانت ناتجة عن غياب العدالة .
وقد شعر المنتظم الدولي كذلك بأهمية العدالة في تحقيق التنمية وبدأ يلزم الدول السائرة في طريق النمو في تغيير قوانينها و إقرار الديمقراطية في العمليات الانتخابية من خلال مراقبتها وحث هذه الدول على الرقي بنظامها القضائي ومراقبته ومساعدته ليكون واجهة مهمة في تشجيع الاستثمار ، ونظرة خاطفة إلى الدول الأكثر نماءا وتقدما في العالم تغنينا عن إيجاد المبررات للقول بحتمية إقرار العدالة لتحقيق التنمية ، فكل هذه الدول وصلت إلى ما وصلت إليه بحكم إقرارها لعدالة قانونية وقضائية واجتماعية واقتصادية هادفة ومهمة .
وكل الدول المتخلفة والسائرة في طريق النمو هي كذلك بسبب غياب العدالة بكل تجلياتها أو بسبب قلة هرمون العدالة المحقون بين شرايينها .
فإسرائيل هي دولة صغيرة بعدد قليل من السكان أصبحت من أكثر الدول نموا وتقدما وارتقت فيها التنمية مصاف الأوائل ليس بسبب ثرواتها الطبيعية أو البشرية ولكن بسبب نظام العدالة الداخلية الذي تعرفه كل دواليب الدولة الإسرائيلية { ويحضرني في هذه اللحظة أحد الأقوال المأثورة التي جاء فيها ( إن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة غير العادلة } .
فالبحث عن التنمية في جميع المجالات لا يمكن أن نهتدي به إلا إذا كانت العدالة هي فانوسه و مصباحه .
فكل شعب أو دولة لا بد لها أن تبدأ ببناء بنيان سليم الأساس لعدالة اجتماعية واقتصادية وقانونية .. الخ إذا أرادت أن تقيم صرحا كبيرا للتنمية .
فكلما أحس المواطن أن صبغة العدالة بكل ألوانها القزحية وغير القزحية هي التي ترسم وتشكل كل تفاصيل حياته وتحكم كل استشرافاته ، إلا وانطلق لينمي عمله وبلده ومحيط عيشه ، فلكي نربح رهان التنمية على جميع الأصعدة ، ونحقق بها التقدم والرقي الذي يسعى إليه كل فرد وتنتظره كل أمة ودولة لا بد من تنمية العدالة وتحقيق العدالة في كل تنمية .
فالعدالة بالنسبة للتنمية هي العمود الفقري الذي بدونه لا يمكن لأية تنمية أن تنمي ، فإذا أردنا تحقيق أية تنمية اقتصادية أو اجتماعية أو فكرية ، لكل فئة وفي مكان لابد أولا من أن نحفها بالجيوش العاملة على تحقيق العدالة وتكون هذه الجيوش معبرا وحارسا ومدافعا عن عدالة حقيقية لا عن عدالة تسعى لخدمة المصالح الشخصية فقط على حساب المصالح الجماعية ، وبعد الجيوش لابد لنا كذلك أن نوجد لها الشعوب والفكر الذي يؤمن بالعدالة الحقة ، ويعشقها عشقا أكبر من عشقه لمصالحه وعائلته وأصدقائه .
فإذا كانت لنا عدالة ولو قريبة شيئا ما من هذا التصور فما من شك في أن التنمية ستجد لها الجو المناسب والأرض الخصبة والماء العذب الحي والإنسان السوي لتترعرع وتنمو وتنمي.
ذ: وهابي رشيد
المحاميبالجديدة









الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة