ظهور ''بيير ريفيير'' بزاوية سبت سايس
ظهور ''بيير ريفيير'' بزاوية سبت سايس

في أحد أيام صيف 1853، قام شاب قروي يناهز عمره 20 عاما، بمهاجمة بيت أمه في منطقة النورماندي الفرنسية، فقتلها بمعول، ثم قتل أخته، وشقيقه الأصغر بالآلة نفسها، و حين كان يغادر البيت بثيابه المضرجة بدماء الأصول والفروع، التقى جارا له في الطريق، و ما إن لمحه هذا الأخير، حتى أصيب بالذهول من فظاعة الدماء التي كانت تتقاطر منه هنا وهناك، فصاح بيير ريفيير في وجهه قائلا: " لا تنظر إلي هكذا، لقد خلصت أبي للتو من مشاكله العائلية، وأنهيت أعباءه! أنا أدرك جيدا أنهم سيقتلونني، لكن هذا لا يهم، لأنني قمت بواجبي!"

هرع بيير إلى الغابة، واحتمى بظلال أشجارها لمدة شهور، واقتات بالتقاط الثمار، وأكل الحشيش والنباتات، لكنه أذعن في الأخير أمام قساوة الطبيعة، وضنك العيش في العراء ، والخوف من حلكة الليل و اقفراره، فنهض ذات يوم باكرا، واقترب من القرية ليصبح في مرمى رؤية السكان، ثم عاد إلى الغابة، وكأنه يدلهم على مكانه، فاقتفت الشرطة آثاره وقامت باعتقاله وإيداعه في السجن.

لقد رأى المجتمع الفرنسي آنذاك في حالة بيير ريفيير نموذج الحيوان المفترس الذي لا يؤمن بقيم الحضارة الإنسانية، والذي يهدد المنظومة القيمية و الأخلاقية السائدة في المجتمع، و ما زاد تأجج الرأي العام ضد هذا المعتدي هو أن الأخصائيين النفسانيين أكدوا أنه ليس مختلا عقليا، بل يعاني فقط من اضطرابات سيكولوجية أحيانا، وبالتالي أمست جريمته ضد عائلته قتلا عمدا عن سابق تصور وتصميم، وهكذا تمت إدانته من طرف المحكمة، ووقع تحت طائلة الحكم بالإعدام، لكن ملك فرنسا تدخل في النازلة، وأصدر تخفيفاً عن الجاني بتحويل الحكم إلى المؤبد، بفضل وساطة قامت بها مجموعة من الأطباء  النفسانيين الذين أقنعوا الملك بعدم أهلية الجاني، وبمعاناته من المشاكل العائلية التي نشبت بين أمه وأبيه، حيث بات بيير ضحية هذه الصراعات والتطاحنات، كما أشار الأطباء إلى مسؤولية الدولة التي لم تتدخل استباقيا لحل مواضيع كهذه، وإيداع أمثال بيير رييفير تحت الحراسة الطبية الوقائية عن طريق المارستانات، إذ كان من المفروض أن لا يترك دون رقابة طبية حتى لا يشكل قنبلة موقوتة في محيطه الاجتماعي.

وبينما كانت محاكمة رييفير تحاك فصولها أمام الرأي العام الفرنسي، كتب الجاني قصته في السجن رغم تواضع مستواه الدراسي، وفاجأ الجميع بخطابه:  "أنا بيير ريفيير الذي قتلت أمي، وأختي وأخي...، ولست نادما على ما فعلت!"؛ و يروي بيير قصة والده الذي تزوج سنة 1813 تهربا من واجب الجندية، لكنه أدى ثمن هذا الزواج المبكر غاليا، إذ عاش جحيم الصراع الجندري بجميع أشكاله، وافترق الزوجان، وتشتت الأسرة، و تمزقت الأواصر بينهما، فحاول الأب عبثا أن يتخلص من هيمنة الزوجة التي تفننت في تعذيبه، واستعملت بيير وباقي الأولاد  بوصفهم أسلحة مدمرة في حرب الابتزاز العاطفي الذي خاضتها ضد زوجها، و ما لبث أن تفاقم الوضع، وتعمقت الهوة بين الزوجين،  و مما زاد من تعاسة الزوج تلك القوانين الفرنسية التي تربط بين الزوجين بغض النظر عن حالة الشقاق بينهما، و ترغمهما على الاستمرار في القتال حتى الوفاة.

عاش بيير رييفير طفولة شاقة بائسة مشتت العواطف بين الأب والأم، وعانى من انفصام في الشخصية بشكل مبكر منذ  أن كان عمره ثلاث سنوات، حيث نشب عراك بين والديه عمن له الأحقية في احتضانه، وأصبح سلاحا قويا في يد أمه التي لم تتوار في ابتزاز أبيه، وإرغامه على العيش معها قسرا، فتعاركا أمامه، وعنفاه وطرداه خارج البيت إلى درجة أنه أصبح أبله القرية، فأخاف الصبيان، وصنع آلات لتعذيب الطيور والضفادع، و مع مرور السنين طور بيير نظرة مخالفة للوجود، حاكم من خلالها أمه وباقي النساء، وكره الكائنات الضعيفة، فعمد إلى تخليصها من قدرها البائس، ووجد لأبيه عذرا في الوجود، لأنه يؤمن بالنظام الاجتماعي الروماني الذي يمنح السلطة للرجل.

و بعد قراءته للإنجيل، أدان بيير جميع أشكال الجنس بدأ من زنى المحارم إلى مضاجعة الحيوانات، و أخذته رعشة خوف عند خضخضة قضيبه لأول مرة، ومشاهدة السائل الذي يخرج منه لا إراديا عند استمنائه، فاستنكر العلاقات الجنسية، كما ازدرى الجانب الجنسي في النساء والحيوانات. لم يؤمن بيير بمبادئ الثورة التي منحت حرية للمرأة، إذ أمست المرأة في نظره متسلطة على الرجل، وتمنى لو عادت فرنسا إلى عهود الرومان التي وضعت سلطة الرجل في المقام الأول سواء في حياته أم بعد مماته.

تحدى بيير المجتمع الفرنسي قائلا: أنا أحسن منهم، وأعلم جيدا كيف تعمل الأعراف الاجتماعية.

لم يكن بيير السفاح الوحيد الذي شهدته فرنسا، فأصرت على تعذيبه، بل مر الكثير من المجرمين الذين كانوا أخطر بكثير من بيير، لكن بيير كان مستفزا و مقرفا، حين ارتكب الجريمة وخاطب المجتمع مقتنعا بأنه على صواب والباقي على خطأ، فارتفعت الأصوات والاحتجاجات ضده، وطالبت بإرساله إلى المقصلة، رغم وجود أصوات معارضة طالبت بالتخفيف عنه، ومعالجته نفسانيا. و أمام تضارب الآراء هذا، أصر الجاني على الموت،  وفضل أن يُعدم على أن يظل أسيرا في سجون مجتمع رفض منظومته الأخلاقية و القيمية.

ينحدر بيير من الأرياف، إذ عاش نمط حياة بدوية قاسية تمرد من خلالها على رموز السلطة، ورفض القهر الذي مورس عليه من طرف أقربائه و جيرانه، لذا انتقم من الجميع في قتل الفروع والأصول و توثيق ذلك على مستوى الخطاب. هزت جريمة بيير كيان الفرنسيين لأنها لم ترتكب فقط في الواقع، بل ارتكبت أيضا في الخطاب، لأن الجاني تحدث ببرودة دم، وبنبرة تحد منقطعة النظير، مقتنعا أنه على صواب و أن المجتمع يسير في الهاوية.

أكان مختلا أم مختلفا؟ بالتأكيد ريفيير اختلف جذريا عن أقرانه، وابتعد عن الضوابط الأخلاقية وقيم مجتمعه السائدة، و حين ألقي عليه القبض، تم إيداعه في حبس انفرادي قضى بداخله مدة خمس سنوات، حتى فارق الحياة يوم وجد معلقاً بحبل داخل زنزانته في ظروف غامضة، و هكذا أسدل الستار على المشاهد الدرامية لقصة بيير ريفيير التي زلزلت منطقة نورماندي الفرنسية في القرن التاسع عشر.

بعد قرنيين من الزمان، يعود بيير ريفيير في شخصية بدوية مغربية تنهل من الغيبيات والسيطرة الخرافية على المصير، تجهل القراءة والكتابة، وتدخن القنب الهندي. هذه الشخصية كبرت وترعرعت بسبت سايس، وبالرغم من شح المعلومات حول طفولة عبد العالي، وما إذا عانى طفولة قاسية كبيير ريفيير، نكاد نجزم أنه ضحية عنف أسري، وأن عبد العالي يكره النساء كبيير ريفيير، لا داعي لأذكر القارئ أن عبد العالي ارتكب جريمة أبشع وأفظع من بيير ريفيير وعزى ذلك إلى وجود عالمين، عالم الجنة، والذي يبدو حكرا على نوع خاص من الرجال مثل والد عبد العالي، وعالم النار الذي ستحشر فيه نساء الدوار بما فيهن والدة عبد العالي. قسّم هذا البدوي العالم إلى قسمين منطلقا من معتقد ديني نظرا لتنشئته على وعظ وإرشاد فقيه الدوار، و إمام المسجد الذي كان يؤذن فيه أحيانا.

حين انتابه الغضب يوم الخميس، و قبل أن يقدم على ارتكاب جريمته يوم السبت، قام عبد العالي بذبح كلب وعلقه في عنقه وطاف به الدوار، وكأن روح بيير ريفيير طافت بسبت سايس، فعوض أن يفرغ نوازعه العدوانية في الضفادع والطيور، قام بتعذيب الكلب الذي يرمز إلى حارس الخيمة، و الساهر على أمنها. وبالرغم من الانتقام من الكلب الذي يعتبر أقل تهديدا، وأقل شأنا و أضعف الخصوم في سلسلة الإسقاط التحويري، لم يكتف عبد العالي بهذه الجريمة الاستبدالية، والانتقام من كبش الفداء هذا، بل سولت له نفسه المريضة المضطربة أنه أصبح قاضي الدوار، و منفذ العدالة الإلهية في هذه القضية معجلا بضحاياه إلى عوالم أخرى، و مخلصا المجتمع من شرورهم.

من خلال تصريحه للمحققين، يبدو أن عبد العالي وصل إلى قناعة غيبية مفادها أن العبور إلى العوالم الأخرى لا يتم إلا عبر تخليص الجسد وإرساله إلى هناك، هكذا أصبح القتل وسيلة لإرسال الأشرار إلى النار والطيبين إلى الجنة، و ما يؤكد هذا، هو أن أباه لم يكن موجودا في مسرح الحدث، و مع ذلك ذهب عبد العالي، و فتش عنه في غرفته التي اعتاد الانزواء فيها، وأجهز عليه ليرسله إلى الجنة، هكذا وضع عبد العالي تصريحه لدى المحققين كما جاء في تفاصيل النص الذي نشرته الجديدة 24 بتاريخ 29/04/2016 تحت عنوان: "تفاصيل جديدة في مجزرة سبت سايس..."

قد تتعدد الأسباب التي دفعت عبد العالي إلى ارتكاب جرائمه، لكن وهمه بأن زوجته والنساء اللواتي قتلهن هن من أهل النار، يؤكد أنه ينتمي إلى فئة ريفيير التي تشيطن المرأة وترى فيها مصدر شرور العالم، إن عبد العالي لا يستقي تمثله للمرأة فقط من تجربته العائلية المريرة، بل من التمثلات الشعبية التي تحقر المرأة كذلك، وتنظر إليها ككائن دوني يتفنن في السحر والشعوذة، وذكاء الحيلة. لقد اختلف عبد العالي عن نموذج بيير ريفيير الذي لم يقتل أباه، والسؤال الذي يطرح في سياق المجتمع المغربي: لماذا أقدم عبد العالي على قتل أبيه؟ لقد فهمنا سخطه على النساء،  وقتله لهذا العدد الكبير منهن، لكن لماذا قتل الأب، رمز السلطة الأبيسية في مجتمع بدوي كسبت سايس؟ هل قتله كان سخطا على حياة القهر التي عاشها مع أهله، وبالتالي يشكل انتقاما دفينا من طفولة بائسة، ومصير مثقل بالهموم ومآسي الحياة، وأب متقدم في السن لا حول له ولا قوة لإعانة ابنه على الصراع من أجل البقاء؟ قال عبد العالي في السياق نفسه: إن أباه "ميت ميت" لذا عجل به إلى الجنة، لقد حقق عبد العالي ما لم يستطع أبوه أن يحققه، قتل مصدر الشرور وانتصر عليها، ثم تربع على عرش الفحولة بوضع اسمه كخليفة للبطريرك المتهالك الذي كبر سنا وأصبح مقبلا على الموت.

 إذا أمعنا النظر في ما قاله عبد العالي للمحققين، يتبين لنا أنه لم يقتل أباه بالمفهوم الذي قتل به الآخرين، بل أرسله إلى الجنة. إن الأب المتقدم في السن أضحى على وشك الموت، وهكذا لم يقم عبد العالي إلا بتعجيل الأمور من وجهة نظره، إذن لا زال عبد العالي ينظر إلى أبيه نظرة إيجابية رغم ما اقترفه في حقه، لأنه يرى أنه خلّص أباه من محنة فراش الموت بالإجهاز عليه والقضاء عليه بضربة الرحمة.

هكذا تصبح هذه الجرائم مجتمعة تعبيرا رافضا عن التهميش الذي طال عبد العالي بوصفه مريضا أو مختلا داخل وسطه العائلي، إذ عمل على تحقيق ذاته، وإثبات فحولته بشكل فوضوي خاطئ، والتصريحات الذي أدلى بها للضابطة القضائية كما جاءت في الصحيفة الالكترونية الجديدة 24 تدل على أن الجاني يعاني من  اضطرابات سيكولوجية حادة.

ومهما التمسنا من أعذار للجاني، لا نظن أن المجتمع المغربي سيسمح لسفاح الأصول والفروع أن يتمتع بظروف التخفيف، كما أن السلطة القضائية تخشى تكرار سيناريوهات مماثلة بحجة المرض العقلي، وتصبح بالتالي وسيلة للإفلات من العقاب، إن مصير عبد العالي يحاكي مصير بيير ريفيير، ولن يجد عبد العالي حتما من سيساعده في محنته، لأن المغاربة لن يتسامحوا مع قاتل الأصول ولو بدر ذلك من مختل عقلي رسميا، لهذا سيقفل الملف طبعا بإعدام السفاح، لكن مسؤولية الدولة في معالجة مرضاها ووضعهم تحت رعاية طبية لائقة سيظل السؤال المحير، والذي لا يبدو أنه يؤرقها الآن، وسيستمر معلقا حتى إشعار آخر بالرغم من أن الجارة فرنسا طرحت السؤال في القرن التاسع عشر ، وتحمل ملك فرنسا مسؤوليته الأخلاقية في قضية بيير ريفيير!


محمد معروف، أستاذ بجامعة شعيب الدكالي

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة