من مآزق التعليم الجامعي.. التدريس بالماراثون
من مآزق التعليم الجامعي.. التدريس بالماراثون

هبط الإصلاح البيداغوجي في الساحة الجامعية بالمغرب بمظلة هبت بها ريح من أوروبا حسب إملاءات و شروط وضعتها المؤسسات البنكية المانحة، إذ بعدما كان الطلبة المغاربة يقطعون أشواطا كبيرة، و مسافات بعيدة من أجل التحصيل و طلب العلم، حيث تستغرق مدة الدارسة للحصول على دبلوم الإجازة أربع سنوات أو أكثر، و تدرّس المواد على مدار سنة كاملة، اختصر الإصلاح طريق المعرفة بتحوليها إلى معلبات جاهزة أُطلق عليها إسم وحدات، تم تركيز معارفها و تكثيفها في غلاف زمني قياسي لا يتعدى 16 حصة. إن السؤال المطروح في هذا الصدد، هو كيف ننتظر من طالب يدرس في بيئة مليئة بالعطل و التغيبات سواء في صفوف الطلبة أو الأساتذة استحصاف المعرفة في هذا الزمن القياسي؟

 

 يتبين أن جل الوحدات المقترحة للتدريس في معظم أسلاك الإجازة بالعلوم الإنسانية تحتوي على مقدمات و معارف جزئية، لا تتعمق في دراسات المفاهيم و المقاربات و لا تشتمل على دراسات تحليلية معمقة. فبعد مسح استطلاعي للعديد من الوحدات في تخصصات مختلفة، اتضح لنا أنها جملة من المداخل و المقدمات المعرفية، منها ما هو إلحاق أو تتمة لفصول و مواضيع في وحدات سابقة، ومنها ما هو كوكتيل من المعارف الجزئية. و تجدر الإشارة هنا إلى غياب الوحدات التحليلية أو الإبداعية التي تنمي مهارات التفكير الناقد لدى الطالب، حيث تقتصر مجمل الوحدات على المباحث النظرية و المعارف المحيطة بها، عادة ما تلقن عن طريق مسح استطلاعي، دون استقصاء علمي دقيق و تطبيقات في عالم الواقع. لنأخذ مسلك السوسيولوجيا كمثال، فنتساءل عن عدد الوحدات التطبيقية للمناهج السوسيولوجية التي تتوفر عليها المسالك في هذا التخصص، وكم عدد البحوث الميدانية التي قام بها الطالب منذ التحاقه بهذا المسلك؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه، إذا كان الأستاذ هو نفسه نادرا ما ينزل إلى الميادين ليتجول بين قراها ومداشرها وأسواقها ودروبها، إذن، كيف سيُنبِت هذا السلوك الاستقصائي في طلبته؟

 

بينما تحرص جامعات غربية على إرفاق وحدات سيمِنار(حلقات دراسية للنقاش) بالوحدات النظرية لفهمها وشرحها ومناقشتها، تكتفي الوحدات في نظامنا بوضع المعارف على شكل مباحث وفصول ومواضيع تتخللها مناقشات طفيفة، وقد تملى الدروس على الطلبة من طرف بعض الأساتذة الذين يفضلون إستراتيجية الإلهاء هذه قصد استهلاك الوقت و إنجاز الحصة بدون تعب يذكر. و إذا أخذنا أمثلة من أسلاك الماستر، عادة ما يقوم الأساتذة بإلقاء محاضرة أو اثنين لطرح الإشكاليات الكبرى و تسليط الضوء على المواضيع المزمع استقصاؤها، ثم تسند مهمة الاستقصاء العلمي للطلبة عن طريق تكليفهم بإنجاز عروض حول القضايا المطروحة للنقاش، هذه الطريقة جيدة جداً، إذا اقترنت بمحاضرات و شرح و تأطير من طرف الأستاذ المؤطر، لكن عندما يعتمد الأستاذ طيلة مدة تدريس الوحدة على أعمال الطلبة لاستهلاك الغلاف الزمني، نتساءل هل هذا كاف لتطوير معارف الطالب؟ كيف سيبحث الطالب في موضوع لا يتوفر فيه على معارف مسبقة؟ لماذا لا يقوم الأستاذ بدوره، و يتعمق في البحث في المادة التي يدرّسها، و يلقي محاضرات تلو الأخرى لإثراء النقاش و تعميق معارف الطالب؟ 

 

يبدو أن النظام القديم شكل شبحا غير ملائم لمتطلبات التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي عرفها المغرب، فتخلصت الدولة من أعباءه، نظرا لكثرة المشاكل التي كان يطرحها، من ضمنها غياب الطلبة و تكرارهم لسنوات الدراسة ، إذ قد تستغرق مدة الإجازة بالنسبة للبعض أكثر من ستة سنوات. إذن، هل الحل هو مراجعة هذا النظام وتطويره، أم التشطيب عليه كليا و استيراد علب جاهزة من الغرب دون مراعاة الأقلمة و التكييف الثقافي لهذه المنظومة التعليمية، ثم الرمي بها على رؤوس الأساتذة والطلبة تحت شعار:  الإصلاح البيداغوجي؟

 

لنكن صرحاء مع بعضنا البعض، إن نظام الوحدات يقتضي مجتمعا منضبطا بالمواعيد الزمنية و ملتزما بها، إذ يحتاج مواطنا ينظم مواعيده بالدقيقة والثانية، و لا يقف لساعات ينتظر وسائل النقل مثلا، كما هو حاصل في المغرب، و ينبغي أن تتوفر المؤسسات الجامعية على ترسانة من الطرق البيداغوجية لتركيز المعارف و اختصارها، و لا ننسى أن الغرب  قطع أشواطا كبيرة في تجهيز البنى التحتية و الأنظمة المعلوماتية التي تمكنه من تطبيق مثل هذا النظام، هذا بالرغم من المشاكل التي أصبح يتخبط فيها نظام الوحدات بدول النشأة نفسها. مع الأسف، لقد جئنا بإصلاح على الورق، و عندما بدأنا في التطبيق، ظهر لنا إصلاح مشوه الخلقة يعاني أعطابا بالجملة، نجيز بعضها في النقط التالية:

 

1- اعتقدنا أن الإصلاح سوف يحارب الهدر الجامعي و الغيابات و التكرار، لكن إذا به يعيد إنتاج الأعطاب نفسها في أسوء مظاهرها، إذ يسجل الكثير من الطلبة أنفسهم في الوحدات ولا يحضرون سوى يوم الامتحان، و حين يقتضي نظام الوحدات فتحها من فصل إلى فصل، تقوم الجامعة المغربية بفتحها من سنة إلى أخرى، نظرا لغياب اللوجستيك و البنى التحتية لتطبيق مثل هذا النظام، و هكذا، إذا رسب طالب في وحدة من الوحدات بالفصل الأول أو الثالث أو الخامس مثلا، لا يسجل فيها في الفصل الموالي في نفس السنة، نظرا لأن الأساتذة منشغلين بتدريس الفصل الثاني و الرابع و السادس، وهكذا يجب أن ينتظر حتى السنة القادمة لما تفتح هذه الوحدة، كما يحرم من ولوج الوحدات المقابلة لهذه الوحدة في الفصول المقابلة. أليس هذا تكرار بمظهر أسوء من الماضي؟ هل هذا يعتبر تدبيرا عقلانيا للغلاف الزمني للتدريس؟ أين هي البيداغوجية في هذا الإجراء المؤجِّل؟

 

لو توقفت الصعوبات عند هذه النقطة بالذات، لكان الأمر أهون على الطالب، لكن المشكل تعتريه مطبات بيداغوجية كارثية، إذ لا يعقل أن طالبا لم يستوف وحدة في الفصل الأول مثلا، و لنقل وحدة النحو، لكنه يمر لدراسة وحدة مشابهة في الفصل الثاني تحتوي على مواد تستكمل معارف الوحدة السابقة. كيف يحدث هذا و هو لا زال لم يستوف شروط الوحدة الأولى؟ يتم هذا في غياب المقابلات بين الفصل الأول والثاني، و الثالث والرابع، والخامس والسادس في نظامنا البيداغوجي، و هكذا تبدأ الإعاقة المعرفية الحقيقية لدى مجموعة من الطلبة، حيث يمرون من وحدة إلى وحدة في الفصل الموالي دون استيفاء السابقة وهضم معارفها.

 

2- لقد أتى الإصلاح البيداغوجي بنظام "الكريدي" في التكوين، فتحول الطالب من طالب للمعرفة إلى متسول للنقط قصد استيفاء الوحدات والفصول، و ظهرت عدة تقنيات منها الإدماج واستيفاء الفصول واستيفاء السنة، جعلت من الطالب عبارة عن آلة حاسوب يضيع وقته في جمع النقط بين الوحدات لاستيفاء الفصل. و تتراكم مشاكل الطالب كلما زادت نسبة الوحدات غير المستوفاة، إذ يثقل كاهله بالوحدات القديمة و الجديدة، وتختلط عليه المعارف، و يجد نفسه مشتتا بين المستويات، إذ أن هويته أصبحت هجينة مستعصية على التعريف، فهو ليس "طالبا ساقطا"بالمعنى القديم للكلمة، وليس مستوف للفصل بالمعنى الجديد، هو طالب "بين هذا و ذاك"، في وضعية بينيّة مؤجلة، لذا تجده يتوسل إلى أساتذته بمنحه بعض فواصل النقط لإنقاذه من الضياع في نظام الكريدي هذا. هناك طلبة قد تضيع عنهم فرصة استيفاء ثلاث وحدات بسبب نقطة واحدة  أو أقل، و هذا سببه نظام التنقيط الذي يراعي شروط نظام أبوجي أكثر مما يراعي الشروط البداغوجية للتنقيط. 

 

2- جاء الإصلاح بتقنية المعاوضة لحماية الطالب من الرسوب وضمان حقه في استيفاء الفصول و اجتيازها، لكن تطبيق هذا المقياس أمسى آفة كبرى في جميع المؤسسات الجامعية، حيث يعبث يوميا بروح الإصلاح و يفسد العملية التربوية برمتها. كيف يحصل هذا؟ بفضل المعاوضة، أصبح اليوم  بإمكان طالب غير متمكن من تخصصه أن يحصل على دبلوم الإجازة بالمعاوضة، حيث يراهن على نقط عالية في الوحدات التكميلية و الوحدات التطبيقية أو الموجهة لاكتساب الوحدات الرئيسية بالتعويض  واستيفاء الفصول، ما لم تنخفض نقط هذه الوحدات الرئيسية إلى مستوى أقل من عتبة 05. إن الإصلاح الجديد يشهد تقهقرا خطيرا لم يشهده النظام القديم منذ نشأته، و لنأخذ طالبا في اللغة الانجليزية غير متمكن من الكتابة والنحو مثلا، وسجل نقطا ضعيفة لا تتجاوز عتبة 05 في هذه الوحدات، بالرغم من هذا المستوى الضعيف، يستطيع بفضل  فازورة  المعاوضة أن يقفز بسرعة البرق إلى مستويات عليا مستوفيا الفصل، نظرا لحصوله على نقط عالية في اللغة الفرنسية و وحدات توجيهية أخرى تعوضه عن النقط التي يحتاجها في الوحدات الرئيسية. فمن يا ترى هذا المهندس العبقري الذي وضع عتبة خمسة لاستيفاء الوحدة بالمعاوضة، و لماذا هذا الرقم بالذات؟ ولماذا المعاوضة؟ هل فكر في مزالق المعاوضة و ما ستخلقه من مشاكل بصفة إجمالية؟ 

 

3- يحدد الإصلاح لكل وحدة غلافا زمنيا يتضمن ثلاث ساعات، و يمكن تقسيمه من الناحية البيداغوجية إلى حصتين بمدة ساعة ونصف لكل واحدة أو ساعتين لحصة نظرية وساعة لحصة تطبيقية، حتى لا يُرهق الطالب ذهنيا، و يستطيع متابعة الدروس باختلاف موضوعاتها، لكن ما يقع في المدرجات وأقسام الجامعة هو التدريس بالمارثون، إذ يفضل الكثير من الأستاذة المدججين بالمعارف و المقاربات وضع حمولتهم المعرفية و إثقال الطالب بالمعلومات في حصة ماراثونية واحدة لمدة ثلاث ساعات في الأسبوع. هذا الإجراء قد يختصر وقت الأستاذ الذي يسافر من مدينة إلى مدينة للتدريس في الجامعة، أو الأستاذ الذي له ارتباطات أخرى، لكنه يظل سلوكا غير مقبول بيداغوجيا. لماذا؟ أولا، إن الحصص الماراثونية تطالها اقتطاعات زمنية في بداية الحصة وعند نهايتها و أثناء الحصة من ساعة ونصف إلى أخرى. هكذا قد تُقزّم الحصة إلى ساعتين  أو ساعتين وربع، بينما يُستهلك باقي الوقت في شرب القهوة والاستراحة و الدخول المتأخر و النهاية المبكرة. ثانيا، هناك فرق شاسع بين أستاذ يلتقي طلبته مرتين في الأسبوع قصد تثبيت المعارف التي يلقنها لهم و استحصافها، و أستاذ يلتقي طلبته مرة واحدة في الأسبوع، فلا يستفيد من عملية المراجعة والتثبيت هذه. و يظل السؤال الأساسي المطروح على التدريس بالماراثون كالتالي: كم مدة المحاضرة الماراثونية التي سيلقيها أستاذ الماراثون هذا؟ إن أطول مدة زمنية لمحاضرة في جامعة أمريكية تتذبذب بين 45 دقيقة و ساعة من الزمن، إذن كيف سيستهلك  هذا الأستاذ المدة المتبقية من الوقت؟ هل سيلقي محاضرتين متتابعتين؟   

 

في الحقيقة، لا تقف المشاكل عند هذه النقطة بالذات، بل تتناسل بالجملة، حيث تغيب جسور المسالك، نظرا لعدم وجود مسالك إجازة تؤطرها شعب مختلفة، بل تكتفي كل شعبة بخلق مسلك إجازة خاص بها لتعيد إنتاج النظام القديم بمظهر معلبات جاهزة جديدة. وبينما ينص الإصلاح على التفويج، تلتجئ الشعب إلى المقاربة "العرّامية" في التدريس، بوضع المئات في فوج واحد، واحتباسهم في حصص ماراثونية لمدة ثلاث ساعات. و لنكن واضحين عند هذه النقطة بالذات، إذ يتعذر كليا على الجامعات أن تفوج أقساما بأعداد ثلاثين أو أربعين طالب في غياب بنى تحتية ولوجيستيك يفي لهذا الغرض. كيف تستطيع هذه المؤسسات التفويج و هي غير قادرة على إجراء امتحانات مستقلة غير موحدة، و نظرا لضعف طاقتها الاستيعابية، أقدمت العديد من المؤسسات الجامعية على الرجوع إلى النظام القديم في إجراء الامتحانات للتغلب على الصعوبات التي تطرحها الامتحانات المستقلة.

 

و بالرغم من حزمة المشاكل هذه، لازلنا نتشبث بهذا الإصلاح  و نعيش في ظل متاهته؟ كلما وضعنا إصلاحا حيز التطبيق، اتضح لنا أنه هو الآخر في حاجة إلى إصلاح، ثم ندخل دوامة إصلاح الإصلاح. إن الجامعة المغربية اليوم تواجه مأزقا وجوديا يتجلى في غياب النقاشات البيداغوجية بين الفاعلين، حيث لازال العديد منهم يعتبرون الحديث عن مشاكل التدريس من المقدسات التي لا يجب المساس بها أو مناقشتها، ويمتعضون من النقد ونقد النقد، و هذا راجع ببساطة لعدم مأسسة الحوار و النقاش وتبادل الآراء منذ البدايات الأولى للتعليم بمختلف مستوياته. أين هو أرشيف تقارير الشعب البيداغوجية و تقارير أيامها الدراسية التي تنظمها لتقييم التكوينات المنضوية تحت إشرافها؟  

 

لن تقوم قائمة لأي إصلاح بيداغوجي دون تحطيم صنم الأستاذ الشيخ بالمغرب!

 

لقد حان الوقت لتقييم عمل الأساتذة و أدائهم البيداغوجي، لأن الإصلاح لا يقاس بالأرقام فقط ، و لا يهبط كجلمود الصخر الذي حطه السيل من عل، بل تساهم في أقلمته و تكييفه كوادر مؤهلة تقيم عملها و تطبيقها على الأرض،  فمتى سينزل الشيخ من منبره لكي ينصت لرأي طلبته فيه، و يقبل تنقيطهم كما يفعل هو معهم كذلك؟ فإذا كان الأستاذ يقوم بتقييم عمل طلبته و الحكم عليه سواء بأنه سيئ أو جيد ، فلماذا لا يقوم الطالب بدوره بتقييم عمل الأستاذ و الحكم عليه ما إذا كان  سيئا أو جيدا؟ لماذا يتحدث الطلبة فقط في الساحات والمقاهي وعلى صفحات الفايسبوك عن الأداء السيئ أو الجيد للأستاذ دون مأسسة هذا التقييم؟ ألا يصح أن تأخذ المؤسسة برأي طلبتها  في أستاذ لا يستكمل تدريس مواده المقررة في الوحدة، و عن آخر يحكي قصص تجاربه الشخصية في محاضرته لاستهلاك وقت الطالب في التافهات؟ و آخر يرتكب أخطاء معرفية، و آخر لا يزال متشبثا بمقاربات بدائية من عهد أفلاطون، لا نذكرها إلا على سبيل التقعيد للنظريات الحديثة، أو عن أستاذ يلقن معارف مفككة جزئية بدون شرح أو إفاضة في التحليل. و ماذا عن أستاذ درس بنفس المراجع أكثر من عشر سنوات؟ و عن أستاذ مُمْل يدرّس بطريقة ببغاوية؟ ألا ترون أنه حان الوقت لمنح الطالب حقّا مؤسساتيا بتقييم عمل أستاذه وإبداء رأيه فيه إن كان فعّالا أو غير فعّال، و هكذا قد نعبد الطريق نحو نقد الذات و تحطيم صنم الأستاذ الشيخ بالمغرب؟!

 

ذ. محمد معروف، أستاذ بجامعة شعيب الدكالي

 

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة