هل كان حبا...؟
هل كان حبا...؟


جلست قرب البحر، لأجمع شظايا كسرت منذ زمن بعيد، فلا فنجان القهوة يداوي الجروح، ولا إبريق النعنان يشفي الغليل، دعني أقول لك أنه لا شيء يسير على هذه الأرض بمحض عرضية التاريخ.
العينان كانتا تراقبان المارة ،أما العقل فهو يحاول أن يرتب أفكاره من جديد التي شابها سخط الزمان. في الجهة  المقابلة تقع مقهى لاغوز و على رصيفها شعر أسود فاقع لونه يبهر الناظرين. للفضول الذي بداخلي شيء من حتى. 
أول خطوة قمت بها ، حجز كرسي بجانبها و لأضعك في الصورة عزيزي القارئ أكثر، أخذت الكرسي الذي يلوح برد البحر بالشعر فوقه. الآن صرت قريبا منها كالموج الذي يمر على رمال البحر كلما سنحت له الأوضاع بذلك.
العينان أصبحت في العينين، و رائحة عطرها و عطري اختلطت، ولم أعد أفصل بينهما، انصهار النظرات مع بعضهما كان مؤشرا على بداية العراك، لكن دعنا لا نحدد نوعيته الآن...كلما أستطيع قوله في هذا الحين هو أن لغة الإشارات  كانت تسيطر على غيرها من اللغات.
لكن سرعان ما ستعوضها لغة اللسان التي لطالما كانت الأقرب إلى قلب كل أنثى، فالنساء عزيزي يمكنك أن تأكل معهن الحلوى بلسانك لا بجيبك دائما.
لا أنكر أنني تلعثمت قليلا حينما قررت التحدث إليها ...
مرحبا، اسمي رشيد و لقد بلغت من الرشد عتيا...
تحركت شفتيها ببطء، قائلة :
مرحبا رشيد. 
ثم عادت الشفتين لتعود لمكانهما، كأنهما عنقود عنب رسم بدقة عالية على يد فنان محترف.
فرد الترحيب بالنسبة لي، كان بمثابة الموافقة المبدئية، على بداية التعارف و تكسير الحاجز الذي يمنعنا من التسلسل في الأحداث.
يبدو أنك لست من  مدينة الجديدة ، كما أنك لم تخبرينني عن اسمك بعد؟
تجيب هذه المرة بابتسامة يطالها حنين الشوق للحديث مع شخص ما، هكذا قرأتها في عينيها التي تسيل سوادا.
_ يا رشيد، فعلا أنا لست ابنة مدينة الجديدة، لكن أزورها كثيرا حينما أشعر بالوحدة. كما يجب أن تعلم أن اسمي حياة.
اسمها كان مواتيا لقول  بيتٍ شعريٍّ في حضرتها، رغم أنني لا أجيد نظمه.
مرحلة  التعارف بالنسبة لي قد اكتملت. الآن يجب المرور إلى مرحلة الاستنطاق. 
تشرفت بمعرفتك يا حياة، فعلا اسمك جميل، وأنت أجمل، لكن ماذا عن زوجك، هل هذا الجمال ما زال عازبا؟ 
الابتسامة هذه المرة تجاوزت حدودها المؤلوفة حتى وصلت للضحك، يبدو أنها قد ارتاحت للحديث معي. 
_يا رشيد أنا لست متزوجة، أنا سيدة أعمال، كما أن مسألة الزواج لا تروق لي خصوصا أنه مازال في الوقت بقية، فأنا لم أتجاوز الثالثة و العشرين بعد. لهذا فالتفكير في الزواج  الآن تفكير في الموت. 
أعجبتني نظرتها للحياة و طريقة تفكيرها، فهذا ما أبحث عنه. 
_ لم تخبرني يا رشيد عن مجال اشتغالك بعد. 
اللسان الذي كان متسلطا في البداية أصبح شبه أخرس. 
أنااا ، أناا... 
_نعم أنت... 
اسمعي يا سيدتي في الحقيقة أنا لا أشتغل ، فقط كاتب لكن...
قاطعتني ،ولم تتركني أتمم الكلام كأنها كانت تعلم أنه لا شيء لدي  لأقوله. 
_اسمع يا رشيد أعجبتني صراحتك  و ارتحت لك كثيرا، لهذا سأعزمك الليلة للعشاء بمنزلي الذي أكتريه بالقرب من هنا، هل توافق؟ 
أي مجنون سيرفض هذا العرض الذي يقدم نادرا في الحياة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بامرأة بجمال حياة. 
_بالطبع أوافق يا سيدتي 
_ دعك من سيدتي و ناديني باسمي، حسنا أترك لي رقمك و سأتصل بك ... 
قدمت لها رقم هاتفي على عجل ، ثم همت بالانصراف... 
أخرجت ورقة و قلما لأدون اللحظة . الأفكار كانت متبعثرة نوعا ما، ذهبت إلى البيت الذي أكتريه بدرب البركاوي. الدرب الذي لا يغمض لك جفن به من شدة الضجيج... وضعت الهاتف في الشحن و عيني لا تفارق شاشته، منتظرا رنينه. 
مرت أربع ساعات، ولا رنين، أرخى الليل سدوله، و لا متصل.... 
أي نحس هذا يطاردني. 
الساعة تشير إلى العاشرة ليلا، يرن الهاتف 
فتحت الخط بسرعة... 
ألو ألوو.... لا مجيب، يقطع الخط. أدركت أنها  هي من كانت وراء الاتصال، لكن عجرفة كاتب مثلي تمنعه من  معاودة الاتصال بها، لأننا نحن الكتاب لا نعطي اهتماما بالغا للنساء مهما بلغن من الجمال. 
وقت الكتابة قد حان بالنسبة لي، أشعلت المذياع و كنت حريصا على خفض صوته، الشاي كان جانبي، فهذه طقوسي حينما أريد الانفصال عن العالم الخارجي، و الغوص في عالم الكتابة، العالم الذي كان دائما صديقا صادقا. ربطت الاتصال بشبكة الأنترنت؛ لأتصفح جريدة الأخبار  الإلكترونية التي أنشر بها مقالاتي بمختلف أنواعها. 
العنوان الأبرز و الحصري، كان على هذا النحو:
قتل شابة عشرينية بدرب البركاوي. كانت الصورة المرفقة للرابط  غير واضحة البتة، فوجهها  ملطخ بالدماء... 
الأفكار تضاربت، و لأول مرة كان فضولي جارفا  لهذا النوع من الأخبار. ربما وقعت في حبها. 
في آخر المقال، كتبت الجملة الآتية :
القاتل لحدود الساعة غير معروف. 
قلت، ربما تكون قد تشابهت لي صورتها، من يدري قد تكون فتاة أخرى و ليست حياة التي التقيتها بالمقهى !!
أغلقت الهاتف و بدأت كتابة مقال عن الهجرة السرية في زمن الكورونا. 
دقات على بابي الخشبي، أفتحه... أجد الشرطة خلفه.  
أنت رشيد ؟
_نعم... 
لدينا أمر بالتفتيش، و سنأخذك للتحقيق معك، حول جريمة قتل، كانت الضحية آخر رقم اتصلت به هو رقمك.. 
عندها علمت أن الكتاب لا يصلحون  للحب فهم رسل التعاسة. 



عبد المالك أجريري : مدينة الجديدة

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة