آسفي والمدن المغربية المنسية: بين مفاهيم الإقصاء وعقاب السلطة
آسفي والمدن المغربية المنسية: بين مفاهيم الإقصاء وعقاب السلطة


إن المفاهيم السوسيولوجية الكلاسيكية مثل (التهميش، الإقصاء، النبذ، الوصم، غياب العدالة المجالية والاجتماعية، وثنائية السرعة العالية/البطيئة) لا تسعفنا في فهم الوضع المعقد للمدن المغربية، لذلك لابد من البحث عن إطار تحليلي أعمق يتجاوز الوصف السوسيولوجي إلى التفسير السياسي والتاريخي لآليات التنمية الحضرية.
غالبا ما يحاول المغاربة فهم الـتفرقة المجالية بين المدن، والمُتعمدة من طرف النظام السياسي، وفق نفس الثنائية القديمة: المغرب النافع والمغرب غير النافع، حيث هذا التقسيم يجعل الثروات الطبيعية مرافقة للتنمية، ويلخص الثورات الطبيعية في الفلاحة والأرض الخصبة والسهول والماء، لذلك تحظى مدن السواحل بتنمية أكبر. في حين أن الموارد المحلية مع النظرية الاقتصادية المعاصرة قد تغيرت. كما أن مدن مثل العاصمة ليس لها أي موارد طبيعية، ومدن أخرى تحتوي الفوسفاط والذهب تعاني التهميش. 
لذلك بدل الاكتفاء بوصف التهميش كظاهرة اجتماعية، يجب تحليلها كـنتيجة مُتعمّدة لسياسات الدولة المركزية. حيث المدن المغربية لا تعاني فقط من نقص في التوزيع العادل للثروة أو الخدمات، بل تعاني من اختلالات هيكلية ناتجة عن نموذج تنموي اعتمد على المركزية المفرطة، حيث تتركز قرارات الاستثمار والتنمية في العاصمة وبعض المدن القريبة منها، مما يحول المدن الأخرى إلى مجرد هوامش وظيفية. ويغيب دور الدولة الحديثة في محاربة الإقصاء وإدارة التنوع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بل تسعى لزيادة الفوارق وتكريس الاقصاء وتعزيزه. 
كما يتم اعتماد الإدارة الأمنية للمجال، بحيث يتم تحويل التنمية الحضرية في بعض المناطق من مشروع اقتصادي-اجتماعي إلى أداة للتحكم السياسي والضبط الأمني، وأحيانا إعادة تقسيم الثروات بين النخب المحلية من أجل انتاج خريطة سياسية جديدة. لقد اعتمد النظام في فترات عديدة إعادة تقسيم المياه والأراضي بين القبائل والأعيان.
لذلك يجب ربط التهميش الحضري بمحطات سياسية محددة، حيث مدن مغربية كثيرة تم تهميشها انتقاماً من سكانها. تحديداً في عهد الملك الحسن الثاني، حيث المحاسبة لم تقتصر على الأفراد والشخصيات التي قامت بالفعل، بل امتدت لتشمل "المجال" ككل.
أنتجت السياسيات الممنهجة اتجاه اهداف التنمية مدناً منسية، فقدت دورها الاقتصادي أو السياسي وتم إزاحتها من الأجندة التنموية الوطنية. كانت بعض المدن التقليدية تعتبر نفسها أعرق من المدن الأخرى التي أحدثها المستعمر، ونجد مدن أسبق من الدولة الوطنية نفسها. ودائما ما يفتخ ساكنة أزمور أنهم أعرق من فاس المدينة العلمية، ويذكرون الرسالة المشهورة "من حاضرة أزمور إلى قرية فاس"، لكن أزمور تحولت هي الأخرى إلى قرية، بينما فاس تعاني من غياب التنمية. 
يتم معاقبة مدينة آسفي ومراكش أنهما أساءتا استقبال الملك الحسن الثاني في إحدى الزيارات. ومدن عانت من غياب التنمية لأنها كانت محط نزاعات اقليمية أو وجدت على الحدود الشرقية. بينما مدن جديدة تظهر كشواهد على المراكز التنموية المرتبطة بالنفوذ السياسي والشخصي، فمدينة سطات ارتبطت بجهود البناء التي قام بها وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري في عهد الحسن الثاني، لأنه ابن المدينة وينتمي إليها. أيضاً تنهض مدينة بن جرير اليوم في ظل مشاريع البناء التي يشرف عليها مستشار الملك محمد السادس علي الهمة، لأنه ابن المنطقة. في المقابل، شهدت مدينة الجديدة بدورها نمواً ملحوظا في فترة حكم عائلة أرسلان التي تنتمي للمنطقة، في حين عرفت ركودا وفسادا كبيرين في العقدين الأخيرين. 
عرفت بعض المدن انتفاضات كثيرة مثل فاس ومراكش، والدار البيضاء، وبعض مدن الشمال والشرق، التي شهدت احتجاجات قوية (خاصة انتفاضات 1981 و1984)، عوقبت بـتجميد التنمية الحضرية المُعمّقة أو بـتوجيه الاستثمار نحو مدن "موالية" أو مراكز اقتصادية جديدة، مما أدى إلى شيخوخة بنيتها التحتية وتدهور خدماتها. حيث يتم توظيف التنمية بشكل سياسي، باستخدام المشاريع الكبرى كأداة للمكافأة والولاء، حيث تعطى إشارة للمعارضين أنه كي يحظو ببعض التنمية والموارد عليهم أن يقدموا الولاء المطلق.
إن فهم وضع المدن المغربية يتطلب تحليلاً متكاملاً يمزج بين التحليل السوسيولوجي لتوزيع الثروة والفرص والتحليل السياسي لكيفية استخدام السلطة للمجال كأداة للسيطرة والمحاسبة التاريخية، هذا الإطار يسمح برؤية التهميش ليس كـ"فشل في التنمية"، بل كـ"نجاح في سياسة الضبط السياسي عبر المجال".
وفي الأخير نطرح إشكالية تواصل هذا الإرث السلطوي، حول مدى استمرار إرث "العقاب" في السياسات التنموية الحالية، حتى مع التحولات الدستورية والجهوية "الموسعة". هل تحول العقاب الصريح والمشخصن إلى إهمال بيروقراطي مُقنّع، ينتج نفس النتائج في غياب عدالة مجالية، لكن بآليات أكثر تعقيداً؟ أم هو تقليد ممنهج داخل دوائر الحكم أنتج نفس المعايير السابقة؟ أم هي استثمارات النخب البرجوازية القريبة من دواليب الحكم، والتي تفضل الاستفادة من القرب المجالي للسلطة للحصول على امتيازات سياسية واقتصادية؟

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة