في الحاجة إلى نخب واستراتيجيات سياسية جديدة
في الحاجة إلى نخب واستراتيجيات سياسية جديدة


مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية و الجماعية، يفرض الوضع نقاش شروط تحقيق دينامية سياسية منتجة لحوار سياسي تشاركي و إقلاع اقتصادي و عدالة اجتماعية. نتناول الموضوع من خلال مقاربة تؤطر النقاش من داخل خصوصية بنية و علاقات السلطة القائمة و التي تضع الصراع من أجل المشاركة في سلطة اتخاذ القرار كممارسة مشروطة لكنها مشروعة للجميع. 
عرف العالم منذ سقوط حائط برلين تحولات جوهرية في التيار الليبرالي و الاشتراكي ساهمت في ظهور اتجاهات جديدة كالنيوليبرالية التي بدأت بوادرها مع تاتشر و ريغان و ظهور تيار الوسط كحل ثالث لأزمة التيار العمالي الاشتراكي في بريطانيا الرأسمالية خلال ولاية توني بلير. بالموازاة مع ذلك، ظهرت حركات يسارية شعبوية في اليونان واسبانيا كما انتعش خطاب اليمين خصوصا المتطرف في فرنسا والولايات المتحدة.  في ظل هذه التغيرات حافظ المغرب على توجهه الليبرالي اقتصاديا لارتباطه بالسوق و مصادر التمويل الرأسمالية. كما أن ظهور أزمات اجتماعية و اقتصادية و التي أدت إلى ظهور بعض الحركات الاحتجاجية ذات طبيعة اجتماعية خلق نقاشا حول طبيعة النموذج التنموي المناسب للوضع في المغرب و الذي تبنت الدولة التفكير فيه و إعداده. بالموازاة دعت الدولة إلى ضرورة تجديد النخب السياسية و استراتيجيات العمل السياسي حتى يتحقق بعض التحسن في الأداء السياسي بالنسبة للجميع. تجدر الإشارة إلى أن خصوصية النظام السياسي في المغرب تضع المؤسسة الملكية فوق الأحزاب و تضع الأحزاب في قلب الصراع من أجل المشاركة في اتخاذ القرار من خلال البرلمان و الحكومة و الجماعات الترابية و الغرف بمختلف تلويناتها الفئوية و الاقتصادية.
أول مدخل لهذا النقاش هو مفهوم الشعبوية كاستراتيجية سياسية- وليس بمعناها القدحي- ساهمت في انتعاش بعض الخطابات السياسية في بعض الدول. تجدر الإشارة إلى أن المغرب عرف خطابات من هذا النوع لكن تأثيرها بقي محدودا نظرا لصعوبة احتكار مفهوم متنازع عليه في السياق المغربي و موضوع صراع و محاولات هيمنة متكررة. يؤكد إرنستو لاكلو، أحد منظري الشعبوية و الهيمنة و الاستراتيجية الاشتراكية، أنه لا يوجد تماثل بين المجتمع ككل و أي فاعل اجتماعي يشتغل داخله، أي أن إرادة الفاعل الاجتماعي لا تمثل الإرادة العامة للمجتمع. بالتالي يكون ادعاء أي فاعل اجتماعي أو سياسي تمثيله للإرادة العامة معرضا للمنازعة والتشكيك. 
المدخل الثاني هو المفهوم الأيديولوجي للدين حيث تحاول التيارات الإسلامية احتكار الأصالة الدينية وتمثيل الأمة كجماعة متخيلة على اعتبار أنها تعتمد على الدين كقاعدة أيديولوجية لبرامجها السياسية. يتعرض هذا التوجه للمنازعة من طرف التيارات اليسارية ومن الدولة التي تعتبر الشأن الديني مسألة سيادية مرتبطة بمؤسسة إمارة المؤمنين. لكن هذا التيار الإسلامي حقق نجاحا وسط الناس لارتباطه بمعتقداتهم وبالعاطفة الدينية. غير أن هذا الاحتكار بدا في التآكل لأن السياسات التي نفذها التيار الإسلامي لم تحقق ما كانت تدعيه على مستوى الخطاب، قبل الوصول إلى الحكومة وحتى إبان توليهم للوزارة الأولى.
المدخل الثالث هو مفهوم الطبقة الذي كان يشكل أساس التفكير الماركسي و الذي تمت مساءلته من طرف العديد من المفكرين على اعتبار أن الطبقة و الموقع من عملية الإنتاج [أي العامل الاقتصادي] هما اللذان يحددان أفكار الطبقة، أي الطبقة العمالية و التيارات الماركسية و الاشتراكية التي يتم تمثيلها عبر الحزب الطليعي. مراجعة ألتوسير جعلت من المحدد الاقتصادي المحدد الأخير في هذه العلاقة بين الطبقة والأفكار. ما دفع التوسير و لاكلو بعده إلى مسائلة صلاحية الحزب الطليعي الطبقي هو تغير مفهوم الطبقة و تشتتها بسبب تعدد الانتماءات داخل نفس الطبقة و بروز مطالب ليست بالضرورة طبقية كمطالب الجنوسة و العرق و الجيل. كما يمنع تشتت التمثيلية النقابية و تنوع طيفها السياسي هيمنة أي حزب أو تيار سياسي على الأحقية في تمثيل العمال و الطبقة الكادحة، كما أن عدم مراجعة التيارات اليسارية لعلاقة أيديولوجيتها بالطبقة يضعها أمام نفق مسدود على مستوى الواقع و تناقض داخل الخطاب السياسي لأن التيار الذي يدعي أنه يمثل طبقة معينة لا يمكنه تمثيل كل الشعب، و بالتالي صعوبة تبني خطاب شعبوي، بالمعنى الإيجابي، دون مراجعة هذه العلاقة.
المدخل الرابع هو مفهوم الهوية حيث تدعي جميع التيارات السياسية تمثيلها للثوابت الوطنية و للديمقراطية و للقيم السياسية المتوافق عليها. يحدث أن يقوم تيار سياسي بنقد التيارات السياسية الأخرى بأنه ليس لها حس وطني واضح و أنها تخدم مصالحها الخاصة و ليس مصالح الأمة ككل. يعني هذا النقد أن هناك أولا مقارنة بمنطق الاختلاف بين الذات و الآخر، لكن هذا الاختلاف يؤدي ثانيا إلى التناقض [بين الخاص و الكلي] بالمفهوم الهيجيلي  لأن التيار الذي ينتقد، يمارس ما ينتقده في الآخر و يدين نفسه أولا لأن ما يمارسه فعليا لا يتطابق مع المصلحة العامة الكلية بالضرورة. أتذكر زعيم حزب يساري يبرر دخوله للحكومة و تحالفه مع حزب إسلامي بخدمة مصلحة الوطن العليا.
المدخل الخامس هو الموقع داخل بنية السلطة الذي يحدد، في الحقيقة، جزئيا طبيعة المواقف و الخطاب الذي يتبناه كل تيار سياسي. فكما قد يلاحظ حتى المواطن العادي فالخطاب الذي يتبناه السياسي عندما يكون في المعارضة يختلف نسبيا عن خطاب نفس السياسي عندما يحتل موقعا في السلطة. التحول النسبي الذي وقع في خطاب الاتحاد الاشتراكي و العدالة و التنمية يدل على ارتباط الخطاب بموقع الذات كما ذهب إلى ذلك ميشيل فوكو و لو نسبيا لأن هذا الرأي يقلل من قيمة الفعل البشري في تغيير هذه العلاقة. إشكالية أخرى تطرح نفسها و هي التقابل الذي تتبناه التيارات السياسية بين التأييد و المعارضة للنظام، لكن القضية ليست في التقابل بين الموقعين و لكن في اعتبار المؤيد نفسه جزء من النظام و و يعتبر الآخر عدوا للنظام، و على نفس المنوال يعتبر المعارض للنظام نفسه خارج النظام و الآخر المؤيد للنظام متحالفا مع كل ما يراه سلبيا في النظام في حين أن الكل جزء من النظام لأنه لا توجد سلطة بدون معارضة و لا تستقيم و تستمر سلطة بدون فسحة المعارضة و النقد.   
للخروج من هذه الإشكالات، إذا جاز التعبير و أمكننا محاولة ذلك، نؤكد على استراتيجيات سياسية أساسية تجعل من النخب التي تتبناها فعلا نخبا جديدة من الناحية النوعية. 
الشعبوية كمنطق اجتماعي هي مقولة وجودية بمعنى أنه ليس لها علاقة بمحتوى سياسي أو أيديولوجي يدخل في وصف أي مجموعة أو طبقة اجتماعية. إنها في الحقيقية صيغة تمفصل أي ربط بين مضامين غير طبقية أو فئوية و تعبير عن مطالب لم يتم الاستجابة لها من طرف المؤسسة التنفيذية التي وجهت إليها تلك المطالب في إطار سلسلة تماثلية بين مطالب فئات اجتماعية مختلفة. يعني ذلك أن يكون التيار السياسي الذي يريد تبني خطاب شعبوي مَرْكزا و مُمَثِّلا لهذه السلسلة التماثلية التي هي مجموع المطالب غير المستجاب لها، و مفاوضا حقيقيا للدولة و النظام لتنفيذها و ليس فقط تيارا يستغل الشعبوية خطابيا يبحث عن كبش فداء و عدو يضعه في مواجهة الشعب [عفاريت بنكيران مثلا] دون التحرك في الواقع من أجل الربط الفعلي لهذه المطالب في مسعى اقتراحي تفاوضي يفهم حدود الإمكان و التطبيق.
يبقى التوظيف الأيديولوجي للدين عائقا أمام الممارسة السياسية المتكافئة لأن استعمال الدين لاستمالة الناس من الناحية العاطفية لا ينتج برامج سياسية واضحة لأن الخيارات الأساسية للدولة تم التوافق عليها و لا يمكن منح هذا الحق لتيار دون آخر. يجب أن يبقى الدين مرجعا للجميع  ليبقى الصراع السياسي معتمدا على الدين و الثقافة والتاريخ و الهوية كمشترك  و مفتوحا على المقترحات السياسية الواقعية لكل حسب مشروعه المجتمعي الذي يسعى إلى تحقيقيه في إطار التنافس و التعاون مع الجميع لتحقيق الممكن.
يبقى الصراع داخل بنية السلطة مبنيا على التخاصم الإيجابي، سواء من داخل السلطة أو خارجها من موقع المعارضة لأن الصراع كما هو في الواقع صراع مواقع و محاولات هيمنة و تكتلات لا يمكن فيه لتيار سياسي تحقيق أي تقدم أو إنجاز دون ممارسة قوة ضاغطة قادرة على اسماع الصوت و فرض الوجود السياسي. في غياب هذه المحاولة لتأكيد الذات و الصوت السياسي القوي يبقى خطاب التيار الفاقد لعنصر التأثير صوتا مهمشا. الدولة لا تعترف بالمطالب التي لا تدعمها قوى ضاغطة و هذا قانون الممارسة السياسية. لاحظ سلافوي زيزيك، المنظر السياسي المشاغب، أنه في ستينيات القرن الماضي، نظرا للضغوط التي تعرض لها الحزب الشيوعي في الولايات المتحدة و نظرا لفشله في حشد العمال، اعتقدت قيادة الحزب أنه يتم التحكم في الناس عبر مخدر سري يوضع في الماء الصالح للشرب و ينشر في الهواء. يؤكد هذا المثال على ضرورة العمل في الميدان و ممارسة النقد الذاتي لأنه من الأكيد أن من يوجد في السلطة يمارس أيديولوجيته عبر وسائل أخرى غير الماء و الهواء.
نقطة أخيرة تتعلق بعلاقة اللغة السياسية بالاستراتيجية السياسية و النخب الجديدة. من الواضح أن اللغة التي تستعملها الرأسمالية على مستوى العالم أصبحت مهيمنة وأصبحت لغة العولمة منفصلة عن أصلها السياسي وأصبحت تبدو كقدر بحيث أنه كما يقول لاكلو لم يعد هناك سياسة اقتصادية يمينية أو يسارية، بل فقط سياسات جيدة وسياسات سيئة. نقطة البداية في اقتراح بديل في ظل هذه الوضعية التي نعيش تبعاتها في المغرب هو إرجاع البعد السياسي إلى الواقع و خلق مفردات جديدة تعبر عن الواقع بطريقة جديدة تتماشى مع المستجدات. الأمة لم تعد تلك الأمة التي نتخيلها، والجماهير -كما الطبقة- لم تعد ذلك الكل المتجانس، والشعب أصبح مفهوما فارغا كل يحدد محتواه حسب مصلحته، و الديمقراطية ليس لنا منها إلا ما نمارسه بالفعل في الواقع السياسي و داخل تنظيماتنا  السياسية، كما أن ما ننتقده على مستوى الخطاب نمارسه في الواقع. لا يستقيم البديل الجديد بمفردات قديمة ولا يستقيم العمل السياسي الجاد إلا بالشفافية و الوضوح و الإخلاص لما هو مشترك و ما هو ممكن تحقيقه.

أستاذ باحث/ جامعة شعيب الدكالي    
   
 
 
 

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة