القضية الفلسطينية ودحض الرواية الصهيونية
القضية الفلسطينية ودحض الرواية الصهيونية

 

تجتاز الأمة الإسلامية مرحلة دقيقة وعصيبة من مراحلها التاريخية، والمحدد لذلك ما تعيشه القضية الفلسطينية من تهديد وجودي يتمثل في التهويد القسري لبيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك، تعزَّز ذلك بعملية اختراق كبرى غير مسبوقة للأقطار العربية التي باتت تهرول نحو توقيع اتفاقيات التطبيع، وفق منظور براغماتي نفعي يرى في الكيان الاستعماري مفتاحا سحريا لحل المشكلات السياسية والاقتصادية...
وقد ظل الصراع الإسلامي الصهيوني تنتظمه روايتان تختزلان معالم القضيةَ برمتها، رواية صهيونية استعمارية تنتمي للحقبة الكولونيالية، ورواية إسلامية عربية أصيلة تستند لمنطق المقاومة والممانعة التي تتسم بها كل الشعوب الحرة.
تقوم الرواية الصهيونية في مجملها على تزييف مكثف للوقائع التاريخية وطمس ممنهج للحقائق بكل معالمها من قبيل أن فلسطين ملكية خالصة للشعب اليهودي  بموجب الحق الديني والتاريخي، وتوظيف أسطورة هيكل سليمان، والادعاء بأن فلسطين وطن بلا شعب لشعب بلا وطن، غير أن هذه السردية لا يمكنها أن تصمد طويلا أمام حقائق الدين والتاريخ والجغرافيا وعلم الحفريات.
بينما تقوم الرواية الإسلامية على أساس متين وقوي من حقائق الدين والواقع  والتاريخ والجغرافيا.
ولنتوقف مع الأساس الديني، فالمسجد الأقصى في حقيقة الأمر ليس مجرد معلمة أثرية تليدة، وإنما هو آية من القرآن بل هو سورة منه هي سورة الإسراء، استهلت بالحديث عن رحلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشق طريقه عبر البقاع المقدسة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وكأنه يخط طريق الأمة المقدس ويصل أحد  جانبيه بالآخر بحيث تجتمع لهذه الأمةِ الخاتمةِ كلُّ القداساتِ والفضائل والأنوار التي تفرقت لدى غيرها، وهي أنوار لا يزاحم بعضها بعضا ولذلك خلد الله تعالى هذا الحدث الكوني العظيم بقوله: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الإسراء، الآية 1]
وفي صحيح البخاري عن أبي ذر الغفاري -رضي الله تعالى عنه- قال: "قلت: يا رسول الله أَيُّ مسجد وضع في الأرض أَول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت ثُمَّ أَي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة".
وهناك الكثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي تؤكد أن هذه البقاع المقدسة سابقة في وجودها على التشكل العرقي للعرب ولبني إسرائيل على السواء، فكما أنه لا يحق للعرب ادعاء ملكية المسجد الحرام بدعوى الحيازة الجغرافية لأنه ملك لكل المؤمنين الموحدين عبر العالم الذين يحجون إليه أشتاتا وفرادى وزرافات من كل فج عميق، فكذلك المسجد الأقصى هو ملك لكل المؤمنين الموحدين ويقوم أهل فلسطين المباركة على خدمته، ولا حق لشذاذ الآفاق والصهاينة الغاصبين في حيازته وادعاء الاختصاص به.
تقوم الرواية الإسلامية حول الأرض المقدسة على قواطع الوحي وبشائر السنة المحمدية التي تنبه على فضل أكناف بيت المقدس وفضل المسجد الأقصى والتبشير بالنصر العزيز المؤزر على اليهود الغاصبين.
والمطلوب منا جميعا ضرورة تعزيز الرواية الإسلامية والانتصار لها وتلقينها للأجيال اللاحقة لمواجهة زيف السردية الصهيونية التي لا تستند لأساس عقدي متين أو أساس أخلاقي مبين، لاسيما بعد تهافت أصولها التوراتية وافتضاح زيف أكاذيبها عن الهيكل المقدس ومملكة النبي سليمان، بل هي في جوهرها لا تخرج عن السياق الاستعماري الإمبريالي العنصري للرجل الأبيض الأوربي في غزوه لشعوب العالم وتطويعها لمصادرة خيراتها وسلبها مقوماتها المادية والمعنوية.
فالصهيونية هي حركة استعمارية توسعية تضطلع بدور وظيفي لصالح من قاموا بخلقها واصطناعها، بل هي أشبه بشركة استعمارية على شاكلة شركة الهند الشرقية ونحوها بحيث تضطلع بالأدوار القذرة لصالح وكلائها، ومما يؤكد هذه الحقيقة أنها خرجت من رحم الاستخراب البريطاني ولم تبرح أبدا العباءة الاستعمارية الأوربية والأمريكية، وأنها توسلت بكل الوسائل والأساليب القذرة والوحشية التي نهجها الغزاة المستعمرون من قتل وتشريد وتهجير بل زادت فظاعاتها على كل الغزاة عبر التاريخ، مما يجعل الصهيونية اليهودية الإحلالية تجمع كلَّ لعنات التاريخ ومثالبَه ونقاطه السوداء المظلمة.
إن فضح حقيقة هذا الكيان العنصري الإرهابي هو جزء من مهامنا ووظائفنا في الصدع بالحق والوقوف على ثغور الرباط المقدس وتعزيز صموده أهله المباركين، لايثنينا عن ذلك تطبيع المطبعين ولا خبال المستسلمين، ممن باتوا يرون في التطبيع والخيانة مجرد وجهة نظر أو قضية فرعية اجتهادية في مسعى تحريفي لقلب الحقائق عبر جعل الأصل فرعا والفرع أصلا، وكأن الأقصى ليس آية من الكتاب المنزل.
إن التطبيع هو تكذيب للقرآن واستخفاف بقدرة الله الواحد الأحد وتخل عن الرواية الإسلامية وخذلان لها، وتبنّ للرواية اليهودية الصهيونية، وتعزيز لها أدرك ذلك المطبعون أم جهلوه.
بل إنه بتعبير الدكتور طه عبد الرحمن هو إيذاء لله ورسوله وللإنسان والأرض، والله سبحانه يقول: ((إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا)) [ الأحزاب: 57] صدق الله العظيم.
  

بقلم د.فؤاد بلمودن - أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة
 

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة