العيادات الطبية بمدينة الجديدة و فوضى الانتظار
العيادات الطبية بمدينة الجديدة و فوضى الانتظار

في الدول التي تحترم مواطينها، يلجأ الطبيب إلى منظومة حجز المواعيد لتنظيم زيارات الزبناء له، و يلتزم بمدة زمنية كافية لفحص المريض، و جمع المعطيات، كما يلتزم بسقف عددي محدد من الزبناء يستقبله خلال اليوم، لكن ما نشاهده بعيادات و مصحات طبية بمدينة الجديدة، يعتبر فوضى بجميع المقاييس، إذ تحوّل تدافع المرضى في المزار من أجل نيل بركة الولي أو المجذوب إلى تزاحمهم و تدافعهم أمام العيادة قصد نيل علاج الطبيب، وعوض أن يعمل الطبيب الحداثي المتنور على  تغيير الخطاطات الثقافية، و ابتكار  طرق حضارية جديدة لتنظيم الزيارة، أو على الأقل تقليد المجتمعات المتقدمة في هذا المجال، فضّل استخدام دكاء الحيلة و استغلال نقص مناعة الجماهير النقدية، فعمِل على ابتزازهم عاطفياً عن طريق الدعاية و الترويج لسمعة الطبيب "الواعر"، معتمدا تقنية الزِّحَام و اكتظاظ قاعة الانتظار كمؤشر على جودة فحصه، و تمكُّنه من علاج مرضاه، لترتفع بذلك شعبية الكثير من الأطباء في المدينة بين جمهور ينحدر من وسط ثقافي مستعد لتصديق الخرافات و الإشاعات و الخوارق

إن تقنية العلاج بالعرّام هذه تنتعش في مجتمع لا يؤمن بالعلم كوسيلة للعلاج بقدر ما يؤمن بمعجزة البركة والسيطرة الخرافية على المصير، فكما انتشر سابقا أولياء تخصصوا في علاج أمراض مستعصية حتى على الطب، ينتشر اليوم أطباء أولياء يمتلكون بركة الإشفاء،( يدّهم مزيانه)، و تحكى عنهم قصص و بطولات دعائية تجعل منهم منقذين من الموت دون غيرهم. و قد تُستخدم وسائل مختلفة في بسط هيمنة بعض الأطباء على الساحة العلاجية بالمدينة إما عن طريق تكوين ائتلافات بين الأطباء، حيث يرسلك طبيب إلى زميله بدعوى أنه هو الكفء في هذا التخصص ويثق بفحصه، و إما عن طريق الدعاية التي ينخرط فيها ممرضات و سائقي الطاكسيات و بائعي الأدوية في الصيدليات. و غالبا ما يقع المواطن ضحية الدعاية، نظرا لاستعداده المسبق لتصديقها، حيث لا يتوفر على طبيب العائلة، و كل مواطن له قصة مختلفة مع المرض، فهناك من يستقي معلوماته حول الطبيب من الحومة، أو الحمام، أو مكان العمل، أو صديق، أو ربما نظرا لشهرة الطبيب في المنطقة، و هناك عامل تاريخ العائلة في التعامل مع المرض، هل يقوم أفرادها بزيارة الطبيب أم الولي؟ كل هذه عوامل ومعطيات تؤثر في اختيار طبيب دون آخر لطلب العلاج، لهذا يلجأ معظم الأطباء إلى تقنية الترويج لسمعتهم و حرفيتهم لجلب الزبناء و ملء قاعات الانتظار.

هل يعقل أن يبتدئ ميقات التسجيل في لائحة زوار الطبيب منذ الخامسة صباحا قبل الفجر؟ كيف لمريض يتألم من شدة المرض أن يتوسل بباب عيادة الطبيب و يتمسح بعتبتها منذ الرابعة صباحا في بعض العيادات، وهو ينتظر صاحب الطلعة البهية، ذلك الطبيب العزّام لكي يُطل عليه، و يشفيه من سقمه بمصافحته ولمس جسده بيده الملائكية، وكأنه يذكرنا بغرائب المعالج الروحاني المكي الترابي. هل يعتبر هذا الإجراء احتراما لكرامة المواطن الذي سيدفع للطبيب أجر فحصه؟ هل فكر هذا الطبيب مليا و بشكل إنساني في محنة مرضاه؟ كيف يُعقل أن يصارع الشخص منّا آلام المرض، ومعاناة الانتظار لساعات طويلة أمام باب عيادة الطبيب؟ ثم تفتح الأبواب لنتمدد بداخل قاعة الانتظار لساعات طويلة، وكلما ابتسمت الممرضة في وجه مريض، تجهّم وسألها السؤال نفسه: "متى سيأتي الطبيب؟" فتجيبه و عيناها تنطق كذبا بالجواب الذي ضٓجِرت شفتيها من ذكره: " هاتَفتُه منذ هنيهة... و هو في الطريق!"

إن تقنية كَردسة الزبناء في قاعات الانتظار قد تأخذ أشكالا مختلفة ابتداء من التسجيل في اللوائح إلى الحصول على رقم ترتيبي لزيارة الطبيب، و غالبا ما تقوم العوائل التي تقبل على مضض بهذا الإجراء، بإرسال فرد من العائلة لتسجيل اسم المريض أو الحصول على الرقم الترتيبي. و الغريب في الأمر هو أن العوائل حتى كتابة هذه السطور تنخرط ذليلة في هذه المنظومة الفاسدة دون أن ترتفع أصوات تندد بهذا السلوك المهين لكرامة المريض.

أمام فوضى الانتظار هذه، تتبادر عدة أسئلة إلى أذهاننا، لماذا لا يطبّق الأطباء منظومة حجز المواعيد عبر الهاتف، خصوصا و أن الهواتف الآن تغزو مدننا وقرانا و دواويرنا، حيث أصبح الكل يحسن استعمال الهاتف، فلماذا يصر الأطباء على كَردسة قاعات الانتظار بالمرضى وذويهم؟ لماذا يتعمد الطبيب الالتحاق بالعيادة متأخرا؟ إذا كانت طوابير المرضى تتجمع منذ الصباح الباكر، لماذا لا يلتحق الطبيب بعيادته منذ السابعة صباحا مثلا بعدما ينتهي من زيارة مرضاه بالمصحات؟ و تتناسل الأسئلة في هذا الصدد حول العواقب المحتملة للعلاج بالعرّام، إذ كم من الوقت يستغرق الطبيب في فحص المريض و طوابير المرضى في الخارج تنتظر يده الملائكية؟ هل سيتمكن من فحص مريضه جيدا في هذه الظروف؟ هل يتوفر الطبيب على معلومات دقيقة حول التاريخ الباثولوجي للمريض؟  هل يحترم الأطباء عدد المرضى المسموح به في عملية الكشف والعلاج؟ كيف لطبيب أن يستقبل أزيد من 50 مريض في اليوم؟ كيف يستطيع هذا الدماغ البشري التركيز و الفحص الدقيق لهذا العدد دون استراحة أو كلل؟ هل هذا نسخة أخرى من المعلّْم بوزكري الذي تحدثنا عنه في مقال سابق، و نعني به هنا ذلك النموذج الذي يسرع في الفحص دون إتقان و يتطلع إلى الفوترة فقط.

ما لا يدركه هؤلاء الأطباء هو أنه حين يلجئون إلى كَردسة المواطنيين في قاعات الانتظار بهذه الطريقة بحجة أن المواطنين لا يلتزمون بالمواعيد و قد تعودوا على هذا السلوك، فهم يعيدون إنتاج السياسة المخزنية التي تركّع المواطن و تقزِّم حجم تطلعاته، إذ أن إستراتيجية الانتظار الازدحامي الفوضوي يضع الإدارة على مسافة بعيدة من المواطن، و يمرّنه على احتلال  مرتبة دونية في التسلسل الهرمي للسلطة، و القبول بالطاعة و الخضوع لذوي القرار من مُقدّمِ المقاطعة إلى قائدها. ألا يتذكر هؤلاء الأطباء كيف كان جل المواطنين في الماضي القريب يجلسون بالساعات في انتظار غودوي نسبة إلى غودو أمام المرافق العمومية و المحاكم والمستشفيات قصد الحصول على بعض الخدمات؟

لنكن صرحاء مع أنفسنا، لا يبدو أن هؤلاء الأطباء يحملون همّ المواطنة و تمرين المواطن على سلوك الانضباط واحترام المواعيد، بل يظهر جليا أن همهم الوحيد هو ملء قاعات الانتظار لخلق هالة حول جودة فحصهم الطبي، و استثمارها لجلب المزيد من الزبناء، فكلما اكتظت العيادة بالمرضى، كلما ذاع صيت الطبيب و توافدت عليه "الدهماء"، هكذا يراها هذا الطبيب مادام لا يفكر في الهدر الزمني الذي تتسب فيه تقنية الكردسة، حيث تتعطل مصالح الفلاحين والحرفيين والأطر، لتلبي رغبة مادية نرجسية ضيقة لطبيب يكرس خطاطات مخزنية بالية. ما الفرق يا ترى بين هذا الطبيب و قائد المقاطعة الذي قد يحرص على تدافع الجماهير في طوابير لانتظاره؟ حيث لازالت ريما على حالتها القديمة في الكثير من المقاطعات، هذا السلوك يعتبر سلوكا مخزنيا بامتياز، فإذا أقدم الطبيب والأستاذ والمحامي والمهندس وغيرهم من الأطر على مخزنة وظائفهم، نتساءل بكل استغراب من سيقود التغيير بالمغرب نحو محاربة المخزنة؟ حين يضع الأستاذ مثلا مسافة سلطوية بينه وبين الطالب، فهو كذلك يكرس خطاطة الشيخ والمريد التي تشرعن الهرمية السلطوية في المجتمع، و كم من شيخ مع الأسف لا زال يقبع بين ظهرانينا في المنظومة التعليمية بالمغرب؟!

إن تمسك الأطباء بمبدأ القاعة الممتلئة لم يأتِ من فراغ، بل هو نابع من تصورات ثقافية يؤمن بها الطبيب والمريض معا، إذ أن المغاربة ينتمون إلى ثقافة مارابوتية تقيس مكانة الأولياء بتهافت الزوار على كراماتهم، فالمزار العامر يدل على نجاعة بركة وليه، و لم يحدث أن امتلأت قاعة معالج تقليدي أو مزار ولي ما لم يتحدث الناس عن كراماته، و ها هي الخطاطة نفسها تتكرر مع الطبيب الذي يضطر لملأ قاعة الانتظار حتى يصنع لنفسه هالة الطبيب البارع، و يتبادل المرضى أطراف الحديث حول إنجازاته، و من حسنات القاعة الآهلة بالمرضى هو  رفع معنويات المريض الذي يزور الطبيب لأول مرة، لأن الحديث الإيجابي عن قدرة الطبيب في علاج مرضاه قد تساعد المريض في التماثل إلى الشفاء عبر قوة "البلاسيبو"، و حتى نكون منصفين لهذا الطبيب، لازال  المريض في مجتمعنا يتخوف كثيرا من زيارة طبيب قاعة انتظاره شبه فارغة، 

و أخيرا، نتساءل عن دور الطبيب في المجتمع؟ هل دوره خدماتي محض يقتصر على علاج المرضى، أم هو دور مثقف ينخرط في تقويم المنظومة القيمية للمجتمع وإصلاحها عبر عمله وتطوعه لخدمة الصالح العام؟ و في هذا الصدد، نتساءل عن الأعمال الخيرية التي يقوم بها أطباء مدينتنا و عن القوافل الطبية متعددة التخصصات التي يرسلون بها إلى القرى المجاورة لمساعدة أبناء المنطقة ومساندتهم في محنتهم خلال الفصول التي تنتشر فيها الأمراض والأوبئة؟ ماذا يمنع هؤلاء الأطباء الذين يسكن جلّهم فيللا بالمسابح شُيِّدت بفضل جيوب الكادحين من أبناء هذا الشعب من تقديم خدمات مجانية لفائدة القرى و المداشر المجاورة؟

 إن تقنية العرّام تسيء لمهنة الطبيب و تحقّر المواطن، حيث تضع مسافة سلطوية بين المعالج و المريض، و تضاعف من معاناة هذا الأخير، حيث تضيف إلى آلام المرض عبء آلام "الحكرة".

 

ذ. محمد معروف، أستاذ بجامعة شعيب الدكالي

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة