رقصة الجرة الأخيرة
رقصة الجرة الأخيرة


فوجئتُ ذات مساءٍ من سنين خلت، برجلٍ في أواسط العمر، بثيابٍ بسيطةٍ توحي بتواضعٍ صارخ، يقف عند حافة "المحرك" بمولاي عبدالله أمغار. كانت السربة قد أطلقت للتو بارودها في طلقةٍ مدوِّيةٍ، كنبضة قلبٍ واحد هزت الساحة. وفجأة، كأنما انفجر بركانٌ كامنٌ في صدره، ارتفع الرجلُ يهتف بأعلى صوته، تهليلاً يقطع صمت الدهشة. ثم تقدم نحو "الگلة" المركونة إلى جانب رفاقها، ليُفرغ ماءها  على رأسه في حركةٍ تشي بالتطهير أو الاحتفاء، قبل أن يحطمها أشلاءً على الأرض. التفتُّ متسائلا، فلقيتُ ابتسامةً عريضةً على شفتي متفرجٍ قريب: "ذاك هو با التامي ( بحذف الهاء) يحضر كل مواسم التبوريدة، وكلما أعجبته رمية بارود 'قرصة' من السربة، احتفل على طريقته".
هكذا، من رحم عفويةٍ مفاجئةٍ، ولد طقسٌ فرجويٌّ لم تعهده ساحات الفروسية العريقة. اخترعه رجلٌ عادي، لا بسلطةٍ ولا بتزلف ، بل بحدسٍ صادقٍ وحبٍ غامرٍ لهذا التراث النابض. تحول كسر الجرة، ذلك الفعل الغامض في بدايته، إلى لغةٍ كونيةٍ صامتةٍ. صارت الجرة المرفوعة ثم المحطمة إيذاناً بانبلاج فرحةٍ جماعيةٍ: إذا فعل با التهامي فعله، علم الفرسان أنهم بلغوا شأواً من الإتقان أشبع توق الجمهور. وإذا امتنع، صامتاً، كان صمته حكماً قاطعاً، تقييماً صارخاً لطلقةٍ قاصرةٍ دون حاجةٍ لصفارةٍ أو صراخ. لم يكن حضوره عابراً؛ بل صار حكماً شعبياً، ووسام شرفٍ غير منظورٍ يُمنح في الهواء الطلق. صار الفرسان يتفاءلون بظلّه عند الحافة، ويتشوقون بلهفةٍ إلى لحظة تحطيم جرته، بل صار تكسيرها في دورهم شرفاً يتنافسون عليه، ومفخرةً يتهادونها: "با التامي كسر جرةً في دورنا!"
خلق با التهامي، من خياله الخصب وحده، فرجةً بلا سلفٍ في فن التبوريدة العتيد. فإذا بها، كالوردة التي تنبت في خلاء، تحتل فجأة قلب المشهد ويحتفي بها الجمهور بكل جوارحه. صار المتفرجون يلتفتون إليه قبل التفاتهم للسربة، ينتظرون حكمه بقلوبٍ معلقةٍ. وصارت الساحة ناقصةً، مبتورة الروح، إذا غاب. تساؤلاتٌ تملأ الأجواء: "أين با التامي اليوم؟" وفرسانٌ يشعرون بفراغٍ لا يُسد، كأن نوراً قد انطفأ. كانت جرته المكسورة أشبه بزفرة رضا جماعيةٍ تتحرر من الصدور، إيماءة تفاهمٍ صامتةٍ تشد الفارس إلى المتفرجين بحبلٍ غير مرئي. كانت العلامة الفارقة، أن البارود لم يذهب سدىً، وأن الفرجة قد ارتقت إلى ذروة بهائها.
وفي أيامه الأخيرة، حين نال منه الداء، ارتفعت الأمنيات : "ليعُد با التهامي". لكن القدر، القاسف بلا هوادة، كان بالمرصاد. جاء نعيه ليخيّم بحزنٍ ثقيلٍ على قلوب محبيه. فبموته، لم يغادرنا رجلٌ فحسب ؛ بل غادرنا طقسٌ بأكمله، ذهبت روحٌ من أرواح الساحة. مكانه عند حافة "المحرك" سيبقى  فارغا ، والجِرار ستبقى  سليمةً، بلا يدٍ ترفعها ثم تحطمها في انفجار من  البهجة وكأن ساحات التبوريدة نفسها تهمس بحسرةٍ: "لن يعود الطقس كما كان". سيفتقده الجمهور في صمت حزين، و سيفتقد  الفرسان   حكمه الصادق. وسيظل السؤال يتردد، ملحّاً، عند كل طلقة بارود مدوية: "هل كان با التامي سيكسر الجرة ؟" لقد رحل الجسد الفاني، لكن "طقسه" – تلك الرقصة البسيطة العميقة – ستبقى  حية، منقوشة في ذاكرة كل عين رأت الجرة تُرفع ثم تُحطم، شاهدةً على كمال السربة.
رحل با التهامي، تاركاً في ثنايا التراب درساً خالداً: أن شرارة الإبداع قد تشتعل في أقصى هامش الفرجة، لتحتلّ قلبها وتصير أسطورة. وأن الوفاء للتراث لا يسكن في الألقاب الفخمة أو الأصول العريقة، بل ينبض في قلبٍ يحب بصدق، وعينٍ ترى الجمال حيث لا يراه سواها. اليوم، ستدوي طلقات البارود في ساحات التبوريدة، ويعلو غبار الخيل، ستظلُّ جرته المكسورة يتردد صداها، حزيناً وعميقاً، في أذن كل من عرف قيمة الرجل وصوته وإطلالته:

"إنا لله وإنا إليه راجعون.. رحل صاحب الجرة، وبقيت ساحات الفروسية تنتظر حكماً لن يأتي…"


عبدالإله نادني



.

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة