أهمية اللغة الأم في تشكيل ذهنية المجتمع
أهمية اللغة الأم في تشكيل ذهنية المجتمع

إن وظيفة اللغة أساسا هي أن تنقل بين ثنايا معانيها ثقافة المجتمع ، والثقافة بدورها تعتبر حاملة لقيم الشعوب التي تشكل هوية للذات الاجتماعية و أساس وجدانها. و عندما نقوم بإقصاء اللغة الأم التي ساهمت في تنشئتنا أو تدميرها، مع الأسف نقوم بتدمير جانب مهم من التراث ...في الحقيقة نحن ندمر كل ما يساعد على نمذجة هويتنا المشتركة، و ما يجسد ذاكرتنا الجماعية. و هذا بالضبط ما قامت به الحركة الإمبريالية، حيث أخضعت اقتصادات الشعوب الإفريقية لخدمة استثماراتها الرأسمالية منذ إحتلالها. و للقيام بذلك، عملت على مأسسة الهيمنة السياسية عن طريق التحكم في اللغات الأصلية وتشتيتها.

و يشهد التاريخ  أن السيطرة الاقتصادية والسياسية لا يمكن لها أبدا أن تتحقق بدون هيمنة ثقافية أو فكرية، لأن هذه الأخيرة تتحكم في الطرق التي ينظر بها الناس إلى ذواتهم و الآخرين، كما أنها قد ترسم المسار الاجتماعي للإنسان في أي اتجاه يحدده منطق السوق، فضلا عن إمكانها أن تزرع عقلية العبيد بين ثنايا المجتمع. وهذا ما حاولت الإمبريالية القيام به فعلا من خلال قمع اللغات الأهلية والدوارج واستبدالها بلغة المستعمر، فمنعت الأغاني الشعبية، و قامت بمحو ما يسمى الآن بالآداب الشعبية الشفهية ... وهكذا، تعتبر الكتابة باللغات الأم بالنسبة للشعوب الإفريقية حاليا عملية استرجاع للبنى الاقتصادية والسياسية التي تم اغتصابها من لدن المستعمر. نحن قوميات وأعراق مختلفة تتحدث لهجات و لغات مختلفة جدا، و هذا ما يغني تراثنا و يميز جمالية لغاتنا الأصلية التي يجب أن نخلصها من بقايا الاستعمار.

هذا ما قاله الكاتب الملتزم نْكوكي واشينْكو الذي رفض الاستمرار في الكتابة باللغة الانجليزية، وتحول إلى التواصل مع الفلاحين و عامة الشعب عبر الكتابة بلغة الكيكويو الكينية، ولما سأله أحد المعلقين الصحافيين: "ألا ترى في هذه اللغة عزلة عن العالم ؟" ابتسم وقال: " كيف وهذه اللغة أكثر انتشارا بين الجماعات العرقية في بلدي، وستصل إلى الفلاح و العامل البسيط!"، وهكذا ركز نكوكي على الكتابة المسرحية باللغة الأم باعتبارها فنا إيحائيا شفاهيا، تستطيع فرجته اقتحام المجتمع و إحداث الثورة الفكرية المنشودة!

هذا المخاض الفكري الذي تعيشه الحركات الثقافية ما بعد الاستعمار يبدو لنا غائبا عن الساحة الأكاديمية المغربية بالرغم من انخراط كم هائل من المثقفين في تفكيك الكتابات و التمثلات الكولونيالية، لكن لا أحد يرى في استرجاع الهوية المغربية عن طريق دعم وتقعيد اللغة الأم في الكتابة الأدبية و تحصيل المعارف والعلوم لتخليص لهجاتها من براثين الجهل و الغيبيات والأساطير التي خلفتها الحقب والأزمنة المتعاقبة على تشكيل الذهنية الشعبية المغربية.

أليس هذا ما يجب أن تعيه تلك النخبة المثقفة الإقصائية التي تهرول من أجل تعريب العلوم و التشبت بلغة المستعمر ضاربة بعرض الحائط اللهجات الأم التي تعبر عن الإثنيات و الثقافات التي يزخر بها مجتمعنا؟ و هنا نطرح سؤالا جوهرياً على هؤلاء: كيف سيتم استبطان قيم المواطنة الحداثية من لدن شعب همش لغته الحية، و تشبت بالفصحى أو الفرنسية، و هي لغات ميتة لا يحيى بها مجتمعنا في الشارع والأسواق والفضاءات العمومية؟  كيف و هذه اللغات معزولة تماما في ردهات الأقسام التعليمية  والإدارات، و لا تنتشر في مداشر المغرب و قراه وأحيائه الشعبية؟ كيف سيتم استبطان قيم محاربة الفساد و احترام قانون السير والحفاظ على البيئة و اللائحة طويلة، و اللغة الأم تحمل قيما و مبادئ  ومعاني معاكسة تماما لهذه القيم التي تنتشر في لغات عالمة لا علاقة لعامة الشعب بها؟ و لنأخذ  على سبيل المثال مفاهيم مثل " موفي / زطط/ سلك راسك/ الوعورية"، وما إلى ذلك من قيم السوق و ذكاء الحيلة في مجتمعنا، ماذا يقابلها في اللغة الأم من مفاهيم  ومعاني يستطيع العضو الاجتماعي منا أن يحاجج بها لتفكيك هذه البنيات القيمية الراسخة سالفة الذكر؟ 

  هذه أسئلة نطرحها  على  خصوم تقعيد اللهجات و إقصاء اللغات الأصلية من عملية تحصيل المعارف والعلوم الإنسانية، حيث يتشبثون بلغات جامدة لا يحيى بها الشعب المغربي، لأن المواطنة والقيم الانسانية التي نود أن ننقلها إلى أعضاء المجتمع، لن تصله الا عن طريق لغته الأم التي يعيش بها. نحن نحيى غالبا بتلك القيم الدينية المعيشة التي استطاعت النفاذ إلى الذهنية الشعبية عن طريق اللغة الأم عبر تاريخ طويل من الممارسة، تلك قيم إسلام  شعبي تؤثر فيه عوامل تاريخية و اجتماعية وسياسية واقتصادية مختلفة، و مادامت لغاتنا الأم لم تدخل حقول المعرفة والفكر بعد، نتساءل كيف سنستطيع التخلص من قيود الاستعمار والغيبيات والأساطير التي سكنت خيالنا الشعبي منذ زمن؟ كيف ستتحقق  النهضة  الفكرية و التحرر الاقتصادي بعيدين عن اللغة التي تحملهما و تنقلهما إلى عامة الناس؟ لماذا لم تلتجأ بعض المجتمعات الإفريقية أو الآسيوية مثلا إلى مأسسة لغة القرآن بالرغم من أسلمة مجتمعاتها و تطبيقها لأحكام الشريعة؟  ولماذا لم تتخلى عن لغاتها الأم؟ إلى متى سيستمر الشعب المغربي في دفع فاتورة ضيق أفق نخبه السائدة و محدودية رؤيتها السياسية؟

 

ذ. محمد معروف، جامعة شعيب الدكالي


الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة