اللغة العربية بين 'كيد الأعداء' و 'جهل الأبناء'
اللغة العربية بين 'كيد الأعداء'  و 'جهل الأبناء'

 اللغة العربية وعاء للقرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الإسلامي عامة ،فإذا ما كُسّر ضاع ما فيه من محتوى ، ووفاء لهذه الغاية (أي انفراط عقد القرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الإسلامي...)، لم يأل أعداء الإسلام جهدا في تلمس أنجع الطرق الكفيلة بتحقيق ذلك ، وقد كان أجداها: " الإجهاز على هاته اللغة واجتثاثها من الجذور".و إذا تأملنا مليا تاريخها- أي تاريخ هاته اللغة- خلصنا إلى نتيجة مفادها أنها قد أتت عليها أحيان من الدهر ، تراوحت فيها بين مد وجزر ، بزغ نجمها تارات ، وأفل تئرا أخرى ،وبقدر ما صالت وجالت ، بقدر ما نكصت وأدبرت ، وبقدر ما رفلت في نعمة ورفاهة ، بقدر ما رزحت تحت نير الهموم، وتكالبت عليها الغموم ، أو ما نحبذ الإصطلاح عليه ب:  " الثلمات الكبرى"،أو التصدعات أو القواصم ، والمتمخضة عن سيل من المؤامرات التي حيكت ، وتحاك  ضدها، و تروم الحَيْق بها ، وكلما تأتى لها ذلك ، تداعت عليها كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، ومن جرائها باتت العربية على شفا الإنهيار ، بحيث استغلقت على الأفهام ، وران عليها الإستبهام ، وإمعانا في حقدها، لاتجيء هذه المؤامرات إلا زرَافات ووحدانا،  فما تفلتها الواحدة حتى تتلقفها الأخرى ، وقد تخبو،  لكنه خُبُوٌّمن طينة الهدوء الذي عادة ما يسبق العاصفة ، فسرعان ما تستعيد مدها الجارف ، وتنطلق في طَفَرات قوية ، وتنبعث كما ينبعث طائر الفينيق من رماده ، وقد تبدَّت عبر تاريخها المشؤوم بأشكال مختلفة ، كان من أبرزها : الدعوة إلى كتابة العربية بحروف لاتينية ،و الدعوة إلى اعتماد العامية ك " إكسير " لما بات يعرف بإشكالية التربية والتعليم....، وإذا كانت إرهاصاتها الأولى قد ظهرت في العصر العباسي حيث دشنها الأعاجم الشعوبيون والمجوس ، فقد استأنفها وحمل لواءها في العصر الحديث ،في مصر، المبشر الإنجليزي :" وليم ويلكوكس" ، وكان لها صدى قوي في باقي أقطار العالم العربي ومن ضمنها المغرب ، بل  وأفلحت في تفريخ  "عملاء" من بني جلدتنا يبشرون بها ، وهم كخلية نحل مشغولة لا يتسرب إليها الفتور.وحري بالذكرأن هاته ليسـت أول ولا آخر صيحـات هاته "المؤامرات " ، فهي كمكائد الشيطان الذي لا يعرف النكوص والإحجام ، أو- كحراشف الثعبان – تتجدد باستمرار في كل وقت وزمان ، فكلما استجمعنا قوانا وطفقنا نلملم جراحنا إلاولاحت في الأفق مؤامرات أخرأكثر إيلاما تأبى إلا أن تنكأها وتعيد نبشها.

ولهذه المؤامرات " رواد " يطلقون لأخيلتهم العنان ، ويبتكرون ما شاءوا أن يبتكروا منها ، ويَحُوكوُنها حياكة ، و" سدنة "  يحرسونها بكل تفان وإخلاص يحدقون بها سرادقات من نار، ، أما سيماهم المسترعية للإنتباه فهي : جنوحهم إلى " مشايعة " و"ممالأة " الإستعمار والفرنكفونية والإستشراق والتبشير والتغريب وسائر الحركات والمذاهب المناوئة للعربية ، والتماهي معها إلى حد المحاكاة العمياء، ودون أدنى شك ، تبقى الوشيجة الماتة بينهم : "التآمر على العربية والسعي الحثيث إلى إبادتها ولو بطرق ميكيافيلية وشوفينية " ،وسعيا منهم لتحقيق ذلك ، لم يتوانوا في اتخاذ مجموعة من التدابيرالعملية ،فقد صوبوا لها وابلا من سهام الشك والريبة، خرموا عرضها ، سعوا ، معاجزين ، باذلين جهدهم ، عسى أن تُطمس معالمها وتُدك أركانها ..

  وفي غمرة هذا المخاض العسير،  وبالموازاة معه ،وبعدما انخدعت وانطلت عليها الحيلة والتبست  عليها الحلول وبارت أمامها الحيل، انساقت أجيال من أبناء الوطن العربي مع هذه الأطروحة ،وفي الوقت الذي آثرت لغات أخرى وارتمت في أحضانها ، طفقت تتنصل من العربية تدريجيا،ضربت عنها صفحا ،ناعتة إياها بالعقم والتخلف ،وخلعتها كما تخلع القميص من رأسها ، وانسلخت منها انسلاخ الليل من النهار،حتى أصبح بينهما "مسافات تقاس بالسنوات الضوئية" على حد تعبير الأديب المغربي بنسالم حميش، وبالتالي صارت تجهلها "جهلا مطبقا ، ضاجا "، وقد دب فيها كما تدِبُّ النار في الهشيم ، وغرقت فيه من مُشاش رأسها إلى أخمص قدمها ، وأضحت تعاني - عند التعاطي معها قراءة وكتابة - من كل تجليات الضعف اللغوي...،من الغثاثة، والركاكة، والرطانة ،واللحن ، والهجانة ،وكما قال مرة "جون ماري لوكليزيو" ل " الطاهربن جلون " ، فقد أضحى لديها من باب المعجزات اختتام جملة ، وفي أحسن الأحوال قد لا تتجاوز درجة الإستمساك بخيوط حائلة منها ، وإن كان هذا لايغني من جوع ، فمن باب آكد أنه لا يسمن ولا يبدِّن .

الأمر يتعلق- إذن –ب " جهل مستفحل " أو " طلاق بغيض " أو " فصام نكد " ذلك الذي نشأ بين اللغة العربية من جهة وبين هاته الأجيال من جهة أخرى وتلك أهم معالمه.

يقول حافظ إبراهيم بلسان اللغة العربية :

رَمَوْني بعُقْمٍ في الشَّبَابِ وليـــــتني . . . عَقُمْتُ فلـم أَجْـزَعْ لقَــــوْلِ عُدَاتـي

أَيَهْجُرُنـي قَـوْمـي عَـفَـا اللهُ عَنْهُمُ . . . إِلَــى لُـغَـةٍ لــم تَتَّـصِـلْ بـــرُوَاةِ

وإذا كنا قد آثرنا المرور مرور الكرام على " كيد الأعداء " ، وعدم التوغل في تمفصلاته فذلك من باب عدم الرد على السفيه عملا بوصية الإمام الشافعي رحمه الله الذي يقول :

إذا نطق السفيه فلا تجبه....................... فخير من إجابته السكوت

أما " جهل الأبناء " فذاك بيت القصيد...

فباستقرائنا  لواقعنا اللغوي نخلص إلى معطى لا تخطئه العين الفاحصـــــــــة ، وهـــو أن هذا   "الجهل" أوهذا "الفصام "  يبقى أثقل عبء أنقض ظهر العربية وأتعب كاهلها ، فانقضت وتقصمت، وهو " أشد مضاضة عليها من وقع الحسام المهند " .

أجل إن أثقل عبء أرهق العربية وأنقض ظهرها ، يتمثل في موقف "أهل الضاد والناطقين الرسميين بها "، فقد أخزوها ، ولا غَرْوبعد ذلك أن يكون القول العربي : "لا كرامة لنبي في وطنه " منطبقا عليها ، فقد باتت تكابد غربة بينهم أقوى من غضبة الجو العاصف وأقسى من زمهرير الشتاء وأحر من الرمضاء.

 إن هذا " الفصام " بين " العربية " و" قومها " طامة كبرى طالت الأمة وحاقت بها  وأصابتها في الصميم ، وداهية عظمى تربو في خطورتها على هجوم  التتار بقيادة جنكيز خان صاحب " الكتاب المقدس!" المدعو الياسك...

وفي كلمات قصيرة وبدون إطناب وهـي لا تخلو من إيحاءات ميثولوجية ، نقول : إنه غول بشع مدمر متعطش للدماء ، أو تنين مزمجر حارق بلهيب نيرانه المنفوثة ، أو طوفان كاسح مجتاح ..وقس على ذلك ما شئت من الأوصاف - عزيزي القارئ - فتلك بعض نعوت هذا " الفصام النكد "..

ومع استفحاله وتعاظمه (نعني بذلك هذا الفصام)، أخذت تتناسل لدينا مجموعة من الهواجس/ التساؤلات (وكأنها قذائف الهاون) من قبيل : كيف نعيد العربية سيرتها الأولى حيث كانت تتسيد وتملك زمام الريادة ؟ ؟ وما العاصم من هذه القواصم ؟ وكيف نعود بهذه الأجيال إلى أحضان هاته اللغة الأم المعيارية ؟ ما السبيل إلى إعادة بعث الشعلة (شعلة العربية) في دواخلنا ؟ وكيف يتسنى لنا فك كوابحها لتنطلق من جديد ؟  وكيف نمكن لها ونخرجها من شرنقة عصر الإنحطاط..؟ وكيف نخلصها من هذا الوضع الظاعن في الإعوجاج ؟ ومتى تتوارى بُهمة هذا الليل المرخي سدوله على العربية بأنواع الهموم، وتنسحب تاركة المجال لضياء الشمس؟  وغيرها من التساؤلات/الهواجس التي قد تجل عن العد والحصر، وقد شكلت - بحق - كابوسا مرعبا أمعن في تأريقنا وقض مضجعنا.

أعزائي القراء ، يا حماة العربية ...لقد دقت ساعة الصفر، وآن الأوان للقطع  مع هذا  "الفصام النكد" الذي استظرفته هذه الأجيال ، ولن يتهيأ لنا ذلك ما لم نسخر طاقاتنا بغرض " استئناف " ذلك الإلتحام الذي وشــــــــح - لقرون- تاريخ العلاقة بينهما ، وهذا حلم سيظل يراودنا حتى ينبلج ولو بصيص نورمن فجر جديد بعد هذا الليل البهيم .

أعزائي القراء : إننا ونحن نصبو لحلحلة هذه الأزمة من أجل إرساء صرح نهضة لغوية جديدة ، (حتما) تقفزأمامنا مجموعة من المقاربات والتي – وإن كانت - لا تخلو من صواب وسداد رأي ، ففي اعتقادنا المتواضع ،تبقى أبرزها تلك المقاربة التي تعتمد آلية " التعريف " بهذه اللغة أو بالأحرى استئناف هذا التعريف . وإن كنا سننساق مع شيء ما فمع الحكمة التي تقول أن تشخيص الداء يحيلنا حتما إلى وصف الدواء ، ولئن علمنا أن جهل الأبناء داء عضال أصاب اللغة ونال منها نيلا ، فانتصبت بينهما تلك المتاريس ، فإن تعليم هذا الجهل ، والقضاء عليه هوحل أومنهج أو: " خارطة طريق " نقترحها كإجراء للقطع مع هذا " الفصام النكد " ، وبتعبير آخر نقول : إن أحد " المناهج الصحيحة" لتحقيق هذا المبتغى – تطبيع العلاقة بين العربية وأبنائها - هو "عرض" حقائقها  ابتداء لتوضيحها لهم من أجل "البيان"، بيان ما تكتنزه  من آيات السحر والجمال ، وما تدخره من فصاحة وبلاغة وبيان ،  فهي ،أي هذه الأجيال ، في أمس الحاجة إلى من يمدها بهذه الحقائق التي طالها التغييب والنسيان بفعل التعتيم والإظلام، ولا يتأتى ذلك إلا ب  "  تعريف " يَنبُش في الذاكرة في أفق استجلاء مطمورها ، واستكناه أسرارها ،وتنوير الرأي العام،إلا نفعل ذلك نتحمل جميعا تبعات ثًلْم عرى العربية كتمهيد لنسف الهوية.

وهنا قد يستوقفنا سؤال لا نحسبه إلا مشروعا وهو : هل تحتاج العربية أصلا إلى تعريف وهي كما يقول المثل " أشهر من نار على علم " ؟ غيرأنه وبسبر أغوارها في محاولة تروم استكشاف أسرارها يتملكنا الذهول،وتشخص أبصارنا ، وتحتار العقول، ومن فرط الخجل  يعلونا الإحمرار،و في انكسارنقول: أهذه لغتنا؟! وتلك كنوزها ؟! ونحن في غفلة منها ، وندعي معرفتها ونحن في جهل بها سادرون...! وبالتالي فإن ميلنا إلى هذا السيناريو : سيناريو التعريف بها لم يكن أبدا ضربا من العبث ، أو صنفا من أصناف اللهو والمجون .

أجل إن " التعريف " باللغة العربية وعرض حقائقها ونفض الغبار عنها هو منهج صحيح كفيل بتصحيح التصورات المكتسبة من الماضي بصددها ، والتي رسخت لدى هذه الأجيال الإنطباع بعقمها ودونيتها.

وإننا وإن كنا قد رثينا لحال العربية ، فإننا نأبى التسليم بموتها ، وهي قناعة راسخة لا في أذهاننا وحسب بل وفي أذهان بعض المستشرقين ،والحق ما شهدت به الأعداء كما يقال عادة ، ومن هذا المنطلق فلنتأمل قول المستشرق" جاك بيرك" :

-  " اللغة العربية لغة المستقبل ولا شك أنه يموت غيرها وتبقى حية خالدة " ، ويقول " جون فرن" : " إن مستقبل الأدب في العالم العربي هو اللغة الفصحى وحدها الزاخرة بالثروة والغنى والتراث وليست اللهجات العامية بلغة كيانية بل هي تحريف وتشويه للفصحى ولن تتمكن هذه اللهجات إطلاقاً من اجتياز جدار التراث والفصحى" .

وقبل الختام نسوق إليكم أعزائي القراء هذا الخبر:

هناك ما يسمى : (أيام اللغات)في الأمم المتحدة ، ولتعميم الفائدة نوردها كما يلي:

-(20 مارس):يوم اللغة الفرنسية (اليوم الدولي للفرنكفونية).

-(20أبريل): يوم اللغة الصينية (تخليدا لذكرى سانغ جيه مؤسس الأبجدية الصينية).

-(23أبريل): يوم اللغة الإنجليزية (الذكرى السنوية لوفاة الكاتب الإنجليــــــــزي : وليام شكسبير).

-(6يونيو):يوم اللغة الروسية(الذكرى السنوية لميلادالشاعر الروسي : ألكساندر بوشكن).

-(12أكتوبر): يوم اللغة الإسبانية (يوم الثقافة الإسبانية).

-(18ديسمبر):يوم اللغة العربية (يوم إدخال اللغة العربية ضمن اللغـــــات الرسمية للأمم المتحدة بموجب قراريحمل رقم 3190(د28)المؤرخ 18 ديسمبر1973).

وعليه ، ولئن كان المنتظم الدولي يحتفل باللغة العربية في يوم واحد فإننا نحتفي بها كل يوم ، وكل ساعة ، بل وكل دقيقة...

 

الكاتب : الحاج الطاهرعبد الكريم

موظف بالجماعة الحضرية للجديدة.

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة