استقالة المثقف من الشأن العام يدق ناقوس خطر المجتمع المغربي
استقالة المثقف من الشأن العام يدق ناقوس خطر المجتمع المغربي

مما لاشك فيه ،أن للمثقف والمناضل الحقوقي دور أساسي في مجتمعه، يتمثل في إفادة الأحزاب والسياسة بوجوده في فضائهما وتأليف كتب عن الإستقلال السياسي والحزبي وكيفية التعامل معهم بإعتبارهم مصدر تحشيد وتعبئة، حيث أنه من المؤكد القول أن المثقف هو مصدر الإنفضاض العام على السياسة والأحزاب، غير أن الإشكال المطروح هو على الرغم من تمتع المثقف بقدرات فكرية ومعرفية إلا أن مشاركته في المجال السياسي كفاعل اجتماعي تبقى محدودة بحسب قدراته على الإندماج في السلطة حيثما نجح في الإندماج السياسي فإنه سيصبح سياسيا محترفا ،أما المثقف الأكاديمي فيظل على مسافة من التاريخ ولا يتورط بأي شكل من الأشكال في اتجاهات معينة.

فإيمانه بإتجاه هو إيمان يخصه وحده لكنه لايتعصب له ولا يفرضه على الجميع.حيث إنطلاقا من خاصية النقد التي تميز المثقف الأكاديمي على غيره تجعله في غنى  عن التورط في إتجاهات معينة مجتهدا بدوره في نشر المعرفة والتنوير،

بما لاتعصف به الرياح إلى مناحي أخرى بعيدة كل البعد عنه .

لكن، يبقى السؤال الأساسي هو ،لماذا هذا العزوف للمثقفين من المشاركة والولوج في الحقل السياسي والنضال الحقوقي؟

يخبرنا الأستاذ ''محمد سبيلا'' أنه وجب علينا مراعاة المعطيات الملموسة للمثقف وتفهم أسباب إنعزاله عن الحدث التاريخي السياسي نظرا لكونه يجهل، مايحدث وراء الكواليس من مزايدات وخصومات سياسية بين الفاعلين السياسين والأحزاب،حيث وجود فئة أخرى أقدر منه على مشاهدة ووصف مايجري بدقة عالية.

إنه لمن الجميل أن يكون المثقف الأكاديمي صاحب، مبادرة ومسئولية، في القدرة على خوض نقاشات عمومية ويومية متعلقة بالشأن العام والدفاع عن المواطن وحقوقه وتنويره لمعرفة ما عليه من واجبات وحقوق، والتصدي لوحشية السلطة التي تنفي الثقافة والإنسانية عن المجتمع المغربي لكن لايجب أن يكون ذلك على حساب معركته الأساسية هي عمله الأكاديمي والفكري ،كأستاذ جامعي وجب عليه إعطاء الأولوية لما يحتاجه عمله من جهد وطاقة، لتكوين شباب وشابات المستقبل القريب بالمعرفة والعلم.

مما لا ريب فيه أن حاجتنا للمثقف، تزداد كل يوم خاصة وأن وضعية العالم اليوم أصبحت تتطلب من الجميع ،إعلاء صوت الثقافة وإعطاء المثقف المكانة الإعتبارية اللائقة به، فبدون تخطيط ثقافي لا يمكننا تصور أي تخطيط سياسي ،أو إقتصادي ،أو إجتماعي،يجد طريقه للعمل والإنجاز ،مما يجعل حديثنا عن أي تصور سياسي ممكن دون ثقافة حبرا على ورق فقط، مدام يعوزه التخطيط الثقافي .

فحاجة السياسة للمثقف هي حاجتها إلى النقد والتمييز والتي لن تجدها بعيدا عن المثقف والذي يثمتل دوره الأساس في الكشف عن المستور ونقده وتغليب كفة المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

إن خطورة تراجع أدوار المثقف في النقاش العمومي وإنحسار أدواره المؤثرة في المجتمع والحياد والتفريط في استقلاليته ،لهو فسح المجال لبلاطجة سياسين أغلبهم أميين، لن يساهم  هذا لأمر سوى في تفشي أنواع من الإنتهازين مما يتحكمون في عقول الشعب والمشاريع المستقبلية .مما يفسح المجال أيضا لتغليب الكفة لأبناء هده الفئة من الوصولين للتمتع  بإمتيازات التعليم والصحة إلى آخره ...على حساب أبناء الشعب المنحط.

     إن تخليق السياسة هو من اختصاص المثقف والمدني الذي إضافة إلى روحه المتمردة في التفاعل السياسي والاجتماعي يتميز بخاصية النظر إلى الأشياء من أعلى وخارج منطق النزاع المحدود للفاعلين السياسيين.

إن ما أهدف إلى قوله من خلال هذا الرأي المتواضع هو أن يلتزم كل من السياسي والمثقف بوظيفته الخاصة والأدوار المنوط بهم القيام بها ..فلا يجب على المثقف أن يكون  بمثابة ذيلا للسياسي ..ينتظر أوامره ليعرف متى يتكلم ومتى يصمت وينساق بذلك المثقف لإغراء السياسة فيتخلى عن دوره  الشريف والنبيل والممثل في النقد وطرح السؤال.. أو يتقمص السياسي وظيفة المثقف فيترامى على القيم الرمزية والميثالية ويفسدها...بجعلها خادمة لمطامعه ومصالحه الفاسدة.

وهذا ما وضحته السنوات الأخيرة التي بينت عن تطفل السياسي على بعض المجالات وفرض هيمنته السياسية المتمثلة في السلطة والمؤسسات عليها.

أما في المغرب فقد اكتسح السياسي لكل الفضاءات مما أدى إلى عزلة الطبقة السياسية في الاهتمام بمصالحها الخاصة ومتطلعة إلى المستقبل تاركة أدوارها الأساسية المتجلية في تدبير الشأن الاجتماعي للأفراد..فاسحة المجال لمؤطرين متطرفين دينيين يؤطرون المجتمع على هواهم ..فاسحة المجال أيضاً لتزايد الصراعات والمآسي والحروب.

في الحقيقة يصعب علي الحسم بلغة العروي، بخصوص مسئلتين أساسيتين:

_هل أحاسب المثقف على التفكير في تقديم استقالته وهناك من استقال فعلاً عن النضال الحقوقي والسياسي ما دام انعزالهم سيعطي فرصة لزعماء بمستويات معرفية هزيلة جدا..تجعلهم لا يخجلون من أنفسهم حينما يقولون الشيء ونقيضه في نفس الوقت ويتظاهرون بشعارات لا يعملون بها على مستوى التطبيق ويدعون أموراً لا يقبلها عقل إنسان..ويقدمون وعودا لا يوفون بها ويقومون بأعمال اليوم ويتنكرون لها غذا ويدعون إلى الحرية وفي بواطن عقولهم عبودية...وهذا كله سببه غياب الثقافة وبتغييبها يصبح كل ما يقال لا فائدة منه ولا قيمة له مما يفتح المجال للسياسة باللعب على الأهواء والعواطف والأخطر شراء أصوات الشعب بسبب فقره وجهله...والتي لا أحد يتحمل مسئوليتها سوى هؤلاء الإنتهازين الذين لم يعفو عنهم الله بعد في الكف عن استنزاف طاقات وخيرات بلادهم ليدفع الشعب المسكين في مقابل ذلك الثمن.

-أم أقدر الوضعية المتدهورة التي أصبح عليها اليوم المثقف ومعاناته منها وهي ضعف قدرته على التصدي للأمية الموغلة في أوساط مجتمعه نتيجة تزايد إفلاس التعليم..والتطلع إلى المستقبل بعيون الماضي وتقديس التقليد ولغة الأجداد..ومحاربة كل ما له صلة بالنقد وطرح السؤال والتخلف الذي يسكن عقول شباب اليوم ..

فأين هي الوضعية المتفائلة التي تسمح لهذا المثقف في الإستمرار في النقد والسؤال والتفاعل الاجتماعي والسياسي في ظل كل هاته الأزمات التي يشهدها المجتمع؟

وهل المثقف وحده من يتحمل مسئولية أوضاع بلده نتيجة استقالته؟

فحسب هذا الطرح السابق أريد أن أنبه أنه إذا لم ينجح المثقف في الدعوة إلى ما دعا إليه الأستاذ ''عبد الله العروي''  حينما قال ''نُوَدِّعُ نِهائيّاً المُطْلَقَات جميعَها، نَكُفُّ عن الاعتقاد أَنّ النّموذج الإِنْساني وراءنا لا أَمامنا وأَنّ كُلّ تَقَدُّم إِنّما هُو في جَوْهَره تجْسيد لأَشْباح الماضي وأَنّ العِلم تَأْويل لأَقْوال العارفين وأَنّ العَمل الإِنساني يُعيدُ ما كان، لا يُبْدع ما لم يَكُن، وبذلك نَتَمَثَّلُ لأَوّل مرّة معنى السّياسة كتوافُق مستمرّ بين ذِهْنِيّات جزئيّة تُمليها ممارسات الجماعة المستقلّة وتتوحّد شيئاً فشيئاً عن طريق النِّقاش الموضوعي والتّجارب المُسْتَمِرَّة، بحيث لا يمكن لأَحد أن يدّعي، فرداً كان أو جماعة أنّه يَمْلِكُ الحَقيقة المُطْلَقَة عن طريق الوَحْيِ والمُكاشَفَة ويَفْرِضُها على الآخرين'' عبد الله العروي، الإيديولوجية العربية المعاصرة، مقدّمة الطبعة العربية، ص. 16  بيروت. ط. 3  - 1979

فإنه لا مجال للاستمرار في استنزاف طاقة المثقف من أجل التنوير والتثقيف ..مادامت النتائج سلبية...وهذا ما يعكسه طرح الأستاذ ''العروي'' حينما قال

أن ''صَيْرورَة الواقع الاجتماعي، نسبيّة الحقيقة المُجَرّدة، إِبْداع التّاريخ، جَدَلِيّة السِّياسة: هذه هي مَعالِم الفكر العصري وقوام المجتمع العصري، عرفها حقّاً البعض منّا وفسّرها ونادى بها، ولكن المجتمع العربي كَكُلّ، منذ القرن الماضي، يتردّد في تبنّيها تَبَنّياً كُلِّياً، ينكرها لا في دائرة الأُسْرَة والمَسْجِد والكُتَّاب فحسب، بل داخل البرلمان والمدرسة العصريّة وحتى في قلب المصنع، يتردد في عرفانها لا في كُتُب تراثنا القديم حين يُعاد طبعها فحسب، بل في التّأليف المعاصر، على صفحات الصُّحُف اليوميّة وشاشة التَّلْفزة، وباختصار في ذهن كُلّ منّا..وهذا التّردُّد قبل كل شيء تردُّد المُثقفين مِنّا، كيف ننعي على الشّعب العربي أو الطّبقة الكادحة العربية خمولها والنّعْيُ كُلّه على المُفَكّرين العرب منذ القرن الماضي الذين جعلوا من الكتابة والخطابة ناموس عَيْش، فانساقوا للتّرجمة واجترار الأفكار والتّلفيق بدون معيار ولا مقياس[…] إذا كان لِتَجارِب الأُمم مغزى فإِنّ أمرنا لن يصلح إِلاَّ بصلاح مفكِّرينا، باختيارهم اختياراً لا رجعة فيه المُسْتَقْبَلَ عَوَضاً عن الماضي، والواقع عن الوهم، وجَعْلهم التّأْليف أداة وانْتِقاداً لا أداة إغراء وتنويم، وإذا قيل إِنّ أَوضاع الحكم وأَوضاع الحرب لا تساعد على ذلك، فأقول إِن أَوضاعنا ستكون دائماً غير ملائمة لأَنَّها لو عادت ملائمة لَمَا احتجنا إِلى ثورة على التَّخلُّف الفكري''. نفس الصفحة والمرجع.

فأنا لا أشجع ..لا على استقالة المثقف ولا على بقائه في ظل نضاله الحقوقي كباحث أكاديمي ولكن شيئين أركز عليهما:

_ألا يكون المثقف بمتابة ذيلا تابعا للسياسين، ينتظر أوامرهم متى يتكلم ومتى يصمت..ويستفيد في مقابل ذلك من ريعهم وانتهازيتهم للسلطة.

فكما قال الفيلسوف التنويري ''بيير بايل'' في كتابه القاموس النقدي..

''أن على الكاتب أن يكون مهتما فقط بمصالح الحق واهتمامات الحقيقة حيث ينبغي له أن يضحي على مذبحها بالأحقاد وبذكرى أفضال الأغيار عليه وحتى لحبه لوطنه، ويتوجب عليه أنه ينتمي لأي بلد أو أنه نشأ على أي مذهب معين أو أنه يدين بالفضل إلى هذا أو ذاك الإنسان أو أن هؤلاء الناس هم أهله وهؤلاء هم أصدقاءه ..فالمؤرخ الحقيقي هو كملكي صادق لا أب له ولا أم ولا نسب وإذا سأله أحدهم من أين أنت؟ ومن أنت؟ فعليه أن يجيب ..أنا لست فرنسيا ولا ألمانيا ولا إنجليزيا ..أنا إنسان مقيم في العالم ..وأنا لست بخادم الإمبراطور ولا بخادم ملك فرنسا بل أنا خادم الحقيقة.''

_ثم أنه لا سبيل إلى رفع الوصاية ونشر المعرفة والثقافة إلا بالشجاعة والجرئة ورفع الحجب على المستور وهذا هو دور المثقف.

فعل الأقل إذا وهنت قدرة المثقف على التثقيف نظراً لظروف مجتمعه البائسة والتي تزداد بؤسا يوما بعد يوم ..فإنه على الأقل يجب عليه ألا يخسر نفسه...

فحتى إذا خسر رهانه في التنوير داخل مجتمعه فإنه لن يخسر يوما ما شهادة ناس الذين سيقولون في حقه أنه كان مناضلا صبورا.

فبالفعل يشهد التاريخ على نفسه أنه كان رديئا لكنه لا يستطيع أن يشهد على صمت المثقف الذي لم يوقف قلمه يوماً على نشر الثقافة والتنوير من خلاله ...

ولقد كان مناضلا شريفا.


جيهان نجيب: تخصص في الفلسفة والمجتمع.

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة