البحث عن الشهرة و نظام التفاهة
البحث عن الشهرة و نظام التفاهة


يتتبع هذا المقال تطورا له نتائج خطيرة على الحياة الاجتماعية و الثقافية و حتى السياسية، و هو البحث عن الشهرة بكل الوسائل الممكنة و من بينها نشر التفاهة. لكن فهم هذه الظاهرة يستلزم البحث في أصولها المعرفية و الاقتصادية التجارية و الاجتماعية و السياسية. 
كان رد فعل الفلاسفة و المثقفين واضحا منذ ظهور تحول في الثقافة و مفهومها بسبب انتشار ثقافة الجماهير المرتبطة أيديولوجيا وواقعيا بتطور النظام الرأسمالي في الغرب. كانت الثقافة في القرن التاسع عشر تحيل على أفضل ما قيل أو تم التفكير فيه حسب ماتيو  آرنولد Matthew Arnold، ثُم تطور المفهوم في القرن العشرين و أصبحت هذه الثقافة ثقافة الأقلية التي استنكرت تحويل الثقافة عموما من طرف النظام الرأسمالي إلى ممارسة تتحكم فيها الجماهير و الصناعة الثقافية الرأسمالية عبر وسائل الإعلام و الإشهار. بدأت الثقافة العضوية التي ينتجها عامة الناس في الاندثار و عوضتها ثقافة الجماهير التي تنتج في الاستوديوهات و تنشر عبر الوسائل السمعية البصرية. رغم تغير مفهوم الثقافة من ثقافة عالمة و نخبوية إلى ثقافة كطريقة أو نمط حياة، في المجال الأكاديمي [ويليامزRaymond Williams]، تطور مفهوم الثقافة الجماهيرية واقعيا و ظهرت تيارات فلسفية معارضة لها كمدرسة فرانكفورت التي اعتبرت   صناعة الثقافة الرأسمالية خداعا للجماهير و تلاعبا بعقولهم لأنها تنشر السلبية و تغيب العقل النقدي و تتحكم سياسيا في تصرفاتهم التي تم توجيهها نحو الخنوع و الاستهلاك.
تطور رد الفعل تجاه الثقافة الجماهيرية المصنعة بالاستوديوهات و المقدمة على شاشات التلفاز و السينما و أمواج الراديو مع ظهور تيار مابعد الحداثة، حيث عبر عدد من الفلاسفة عن موقفهم من هذا التحول بطرق مختلفة فمنهم من اعتبر أن التمثلات عوضت الواقع المعيش و أصبح الواقع المقدم للجماهير مجرد نسخ بدون أصل سماها بودريار Baudrillard بالسيمولاكراSimulacra. كما أن جي دوبور Guy Debord ذهب في نفس الاتجاه لكن بمقاربة مختلفة حيث اعتبر أن العلاقة بالواقع لم تعد مباشرة بل أصبحت التمثلاتrepresentations [المقدمة في التلفاز و السينما والوسائل السمعية البصرية الأخرى] تتوسط بيننا و بين الواقع المعيش في كتابه مجتمع الاستعراض  La Société du spectacleحيث لخص أطروحته كالتالي: "أن كل ما كان يعاش على نحو مباشر يتباعد متحول إلى تمثل". يحاجج دوبور أن مجتمع الاستعراض الرأسمالي فصل الانسان عن رغباته الأساسية عبر صناعة ثقافية اجتماعية كالسينما و التلفزيون التي تتوسط بينه و بين الواقع عبر التمثلات التي تنتجها و تزيد بذلك من اغترابه بفقدانه الإحساس بالحياة و اصبح المجتمع بالتالي محكوما بأيديولوجيا الاستعراض.
أصبح الاستعراض الذي هو تمثل تأكيدا للمظاهر و نفي للحياة، لأنه عندما يتحول العالم الواقعي إلى مجرد صور، تصبح هذه الصور هي الأشياء الحقيقية. غير أن مقاربة دوبور لم تسلم من انتقاد ريجس ديبري Régis Debray الفيلسوف الفرنسي الذي أكد أن ما يقع في مرحلة الفيديو سفيرvideosphere هو عكس ما يدعيه دوبور، حيث أن كل ما كان تمثلا أصبح قريبا بفعل الاتصال المباشر بالواقع و الحياة، و أننا نعيش في عالم الأثر و التفاعل. و اعتبر تخوف دوبور من التمثلات و من السلطة كشر كامن وراءها بأنه غير مبرر و مبالغ فيه. [مقابلة على اليوتوب]
كما أن ميشيل فوكوFoucault  عارض دوبور مؤكدا أن المجتمع الغربي ليس مجتمع الاستعراض بل مجتمع الرقابة، مؤكدا أن شبكات الاتصال هي ركائز تراكم السلطة و مركزتها و بداخلها يصنع الفرد بعناية، و يطوع جسده حسب معايير السلوك الاجتماعي المقبول, [الجسد هو طريقة العيش و أسلوب الحياة]. غير أنه من أجل الحقيقة فإن ريجيس ديبري يتكلم عن المرحلة المتأخرة و التي يسميها hypersphere و يعني بها الانترنت، أي أن أطروحة دوبور كانت صالحة في سياقها التاريخي [ستينيات القرن الماضي]. ما هو ثابت هو أن الوسائل السمعية البصرية تفصلك عن الواقع لتعيد ربطك به بطريقة مغايرة تتماشى مع أيديولوجية الدولة و رغبتها في المراقبة و التحكم عبر الدعاية و التضليل و الممارسة المادية للأيديولوجيا. 
كانت صناعة المشاهير في عصر الوسائل السمعية البصرية من اختصاص الشركات الكبرى التي تخلق من شخص ما نموذجا كاملا بمواصفات غير عادية و تحوله إلى سلعة تروج لها لتبيعها للجمهور, 
تحولت هذه الصناعة بفعل الانترنيت و خاصيات النشر و التدوين إلى ممارسة يومية يمارسها هواة و ظهر ما نسميه اليوم بالتدوين المرئي(VLOG)vblogging الذي يعتبر الوريث الشرعي لما كان يسمى بتلفزيون الواقعREALITY TV الذي كان يصور الأشياء العادية في حياة الناس- و قد ساهم الانترنت في تمكين الانسان العادي من التعبير عن صوته مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، و أصبح الانسان التابع و العادي الذي كان يستهلك ما ينتجه الآخرون و يخضع لسلطة الصورة و الترفيه و التلاعب إلى إنسان منتج لمنشورات و فيديوهات تعبر عن حياته المعيشة المباشرة بكل تفاصيلها.
في عالم مشبع بالمعلومات حيث أصبح الانتباه عملة نادرة يصعب الحصول عليها، يحاول الممارسون لهذا التدوين المرئي اكتساب شهرة عن طريق نشر فيديوهات غير عادية لأنشطة يومية عادية كالروتين اليومي. غير أن أهم ما يواجه هؤلاء المدونين هو تكوين جمهور من المعجبين من نظرائهم و المحافظة عليه لمدة أطول حتى يتمكن المدون من ربح بعض المال من الشركات المعلِنة على يوتوب- و لأن الناس أصبحت تبحث عن التجربة أكثر من المعلومة، فقد أصبح هذا النوع من التدوين المرئي الذي يركز على عنصر أصالة التجربة أي التجربة الحقيقية مقابل التمثلات الزائفة يستأثر باهتمام الناس لنشره لفيديوهات تحكي سرديات عادية و حميمية أحيانا من الحياة اليومية. لم يعد معيار و قيمة ما ينشر هو سوق الأفكار بل "حكمة" الجمهور، أي عدد التجاوب مع ما ينتشر، أي الكم و ليس الكيف.
غير أن هذا لا يعني أن المشاهير لا يستغلون وسائل التواصل الاجتماعي، بل أصبحت هذه المواقع بديلا للتواصل مع الجمهور. فعلى سبيل المثال، فإن لائحة العشرين شخصية تحصل على أعلى نسبة من المتابعين على تويتر تضم المغنيين و السياسيين و العلامات التجارية و المشتغلين في ميدان الترفيه و رجال الاعلام و الرياضيين [الترتيب حسب النسبة]. يحتل باراك أوباما المرتبة الأولى على تويتر من حيث عدد المتابعين الذين يفوق عددهم 130 مليون متابع، متبوعا بالمغني جستن بيبرب114 متابع.
أما الانستغرام الذي هو شبكة اجتماعية أمريكية لنشر الصور و الفيديوهات و مملوكة لفيسبوك، فيحتل كريستيانو رولاندو المرتبة الأولى ب272 مليون متابع، متبوعا بالمغنية أريانا غراندي [الاحصائيات منذ فبراير 2021]. لا يختلف الفيسبوك كثيرا عن الانستغرام حيث يحتل كريستيانو رولاندو المرتبة ألاولى ب122 مليون إعجاب متبوعا بالمغنية شاكيرا ب 104 إعجاب. أما على يوتوب فيصبح عنصر الاثارة غير مرتبط بالشهرة بل بأحداث الحياة العادية لناس عاديين، حيث يحتل الموقع الأول من حيث عدد المسجلين، موقع PewDiePie  ب108 من المسجلين، متبوعا Kids Diana Show  ب73 مليون مسجل. و هذه المواقع و التي تليها في الترتيب هي استعراض لأشياء عادية من حياة الانسان كممارسة الألعاب الالكترونية و التعليق عليها و تفاصيل الحياة اليومية. أما بالنسبة لتيك توك، فأغلب الحسابات التي تستأثر بعدد كبير من المتابعين هي لمغنيين أو راقصين أو و خصوصا شخصيات من وسائل التواصل الاجتماعي. و ينتشر نوع معين من المنشورات و الفيديو عبر آليات التقليد و التحدي و الإثارة. و يبقى مضمون أغلب الفيديوهات و المنشورات متشابها يتوسل التيك توك لعرض سلوكيات عاديةٍ و أحيانا غير عادية كالاستعراء الجنسي للبحث عن إثارة الانتباه ْو كسب عدد أكبر من المتابعين  و المشاهدات. 
بالنسبة للمشاهير المغاربة على اليوتوب مثلا، يتصدر سعد لمجرد اللائحة ب8 ملايين و 900 ألف متابع و تتصدر شوف تيفي اللائحة من حيث عدد الفيديوهات المنزلة من  اليوتوب. ثم يأتي بعدهم أشخاص و مؤسسات. يشبه الفيسبوك  اليوتوب من حيث نوعية المشاهير حيث يحتل المغنون كالدوزي و سميرة سعيد و المنشطون كالعلالي رشيد و المؤسسات الإعلامية كهسبرس و شوف تيفي المراتب الأولى. أما على الانستغرام فتتصدر اللائحة نورة فاتحي راقصة مغربية بكندا و تسكن حاليا بالهند ب 27مليون متابع لكن بمليون و نصف إعجاب، ثم يليها كريم بنزيما لاعب كرة ب38 مليون متابع لكن ب640 ألف إعجاب. لا تختلف نو عية المشاهير المغاربة عن غيرها، فعالمي الغناء و الرياضة يشكلان أساسا للشهرة و يشكل هذا التوجه امتدادا لصناعة المشاهير التي تقوم بها المؤسسات الرأسمالية التي تروج لسلعها و منتوجاتها، غير أن الاختلاف يكمن في أن فضاءات التواصل الاجتماعي مكنت المشاهير من الترويج لحياتهم الخاصة التي كانت في السابق منطقة رمادية لا يطلع عليها إلا القليل، بالإضافة إلى أنه أصبح بإمكان المعجبين التفاعل مع هؤلاء المشاهير يوميا.
يضمن هؤلاء المشاهير متابعة لمنشورات حياتهم الخاصة و لإنتاجاتهم لكن بالمقابل يحققون ربحا ماديا خصوصا على اليوتوب من الشركات التي تعلن عن منتجاتها في حساباتهم. المؤسف حقا هو مضمون التواصل الذي يمتح من التفاهة و يتنفس الشعبوية [خصوصا بالنسبة للسياسيين]، و لا يعتمد إلا على العاطفة و المغالطات المنطقية. فزيارة حسابات المشاهير تؤكد تفاهة المضامين المنشورة و التجاوب المرتفع من حيث عدد الاعجابات بها. فمثلا منشور لممثلة مغربية على الفيسبوك تقول فيه: "أنا راه انسانة ظريفة" ["أنا إنسانة لطيفة"] يحصل على 17.246 اعجاب و 7709 تعليق و 180 مشاركة. هذا الكم من التفاعل يكشف لنا عن نوعية المضامين التي تنتشر و تحصد الاعجاب في حين أن صفحات المثقفين و السياسيين الجادين و الخبراء و أصحاب الكفاءات لا تحصل إلا على القليل جدا من الاعجاب من نظرائهم.
 لكن الإمكاناتaffordances  التي توفرها مواقع التواصل الاجتماعي ليست حكرا على المشاهير بل أصبح يستعمها الانسان العادي لتحقيق شهرة و متابعة لتحقيق ربح مادي خصوصا على اليوتوب. أصبح الترفيه مسيطرا على الثقافة، فالبحث عن وسائل و مضامين تثير انتباه و فضول  الناس بخلق فرجة أو عرض أشياء عادية و تجارب شخصية و أحيانا حميمية أصبح سلوكا رائجا على مواقع التواصل الاجتماعي. فأحداث كان أبطالها ناس عاديون مازال يرددها الناس في أحاديثهم كقصة إتش وان إن وانH1N1، و مي نعيمة و الزوجة التي فرضت على زوجها مشاركتها فيديوهات الروتين اليومي و الشاب الذي أوقف الترامواي. تختلف الدوافع لكن النتيجة واحدة و هي تحقيق شهرة عن طريق الاثارة و التحدي و الفرجة، و هي وسائل تترجم لدى هؤلاء الساعين نحو هذا النوع من الشهرة نقصا في الاعتراف الاجتماعي و إحساسا بالتهميش. 
من وجهة نظر ثقافية، فإن المجتمع المغربي يميل نحو هيمنة ثقافة الترفيه التافه و الفرجة الرخيصة و الشهرة التي تشبه الفضيحة، و كلها تحقق ربحا تمكنه مؤسسات رأسمالية خارجية. أكشونة المجتمع [من أتش وان إن وان]  تحتل مساحات متزايدة كان في الماضي يملؤها النقاش الجاد لقضايا الشأن العام و الالتزام السياسي بالنضال من أجل التغيير و الديمقراطية و قيمها. و أصبح ما ذهب إليه الفيلسوف ألان دونوAlain Deneault  في كتابهla médiocratie صحيحا من كون المجتمعات الحديثة بدأت تخضع لنظام التفاهة و أصبح التافهون يسيطرون على السلطة في كل المجالات و المؤسسات و المنابر، و أصبح التافهون يؤيدون بعضهم البعض.
قد يكون وصف ألان دونو قاسيا و فيه بعض المبالغة من جهة، وقد يكون صحيحا أن الواقع الرقمي الجديد قد مكن الانسان من الاتصال المباشر بالتجربة و الواقع و من تفعيل صوته من جهة أخرى، خلافا لما ذهبت إليه الفيلسوفة الهندية سبيفاك غياتاري Spivak Gayatri من هيمنة المثقف على التابع و إخماد صوته، فإن صوت الانسان العادي التابع للآخرين في تمثلاتهم و آرائهم ليس في حقيقة الأمر متهيئا و قادرا بعد على التعبير عن رغباته الحقيقية و حاجياته الأساسية و أن صوته مازال متحكما فيه  و متلاعبا به باستغلال حاجته إلى المال و الاعتراف الاجتماعي و مازال خاضعا لثقافة تافهة أساسها الفرجة و الاثارة و نشر الفضيحة. كما أن التجربة الرقمية هي كذلك تَمَثُّل يُبعدنا عن الواقع المادي المستقل عن الوسائل التكنولوجية، الذي أصبح غريبا عنا و لا نتعرف عليه إلا من خلال شاشات هواتفنا.
مقاومة نظام التفاهة هي معركة الحاضر و المستقبل. يجب أن نخوض حربا ضد الخمول و الكسل و البحث عن الربح السهل الذي يسرقنا كرامتنا و يُبدّل حاجياتنا الأساسية بأوهام سرعان ما تختفي كالسراب في يوم صيف حار. يجب خلق بديل لنظام التفاهة لأنها تدمر كل شيء، و ليس بديلا عنها سوى تشجيع الكفاءة و الخبرة و التفكير النقدي الذي يخدم فعلا المجتمع و يساعد على تنميته.

أستاذ باحث/جامعة شعيب الدكالي
 
         
 

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة