التزوير الإصطناعي المُتقن.. آفة اليوم والمستقبل
التزوير الإصطناعي المُتقن..   آفة اليوم والمستقبل


بدأ  الزمن الذي كان بإمكان خبراء الخطوط والعملات، بالمقارنة المادية بين الخط الأصلي والتوقيع، وذلك المدعى في ثناياه بالتزوير، والخروج بنتيجة شبه مؤكدة تفيد بوجود التزوير في الخط أو التوقيع المدعى الزور فيه أو تفنده،  زمن بدأ يولي رويدا رويدا، ونفس الأمر نعيشه بالنسبة للنقود التي يتم التشيك في زوريتها، حين كان يتم  فحص معدنها أو ورقها، بالوسائل التي كانت متاحة وتسهل بشكل يسير الوقوف على زورية النقود من عدمها ، فالتزوير الذي كان قديما يستعمل وسائل بسيطة جدا لاقترافه،  اصبح في العقود الأخيرة يستعمل وسائل تقنية وطابعات متطورة ، لتزوير المحررات كيفما كان نوعها، وتزوير وتزييف  النقود التي وصلت في تقنية تزويرها، حدا يصعب على الشخص العادي بالوسائل التي كان يُعمل بها سابقا  معرفة الوثيقة المزورة من الحقيقية، لذلك انتشرت في الأسواق الكبرى والأبناك والمحلات التجارية، آلات فحص النقود التي يتم إدخال الورقة النقدية فيها،  لمعرفة صحتها من فسادها ، فإن كانت صحيحة تمر بدون ضجيج أو إنذار، وإن كانت مزورة تصدر الآلة صوتا منذرا بأن الورقة مزورة.
لكن التقنية والسباق السريع جدا الذي تسير به الدول الكبرى في طريق سكة التقنية والذكاء الاصطناعي وعلوم الكمبيوتر، أصبح يهدد الحقيقة في كل شيء، وأصبح التعريف الكلاسيكي لجرائم التزوير بكونه تغيير الحقيقة، غير كافي في نظري ، ولن يُمكن بسهولة مستقبلا من التفريق بين الحقيقة الفعلية في المحرر أو العملة أو الصوت أو الصورة أو الفيديو وتلك التي يمكن أن تكون غير حقيقية، ولكنها مُتقنة بعمق ودقة لا تترك مجالا وفراغا للتفريق بين الصحيح والكاذب منهما، ولا يُقسم بزوريتها وتزييفها سوى من زيف أو زور أو كان ضحية له هذا النوع من التزييف والتزوير الجديد. أما غيرهم فسيقسمون بصحة تلك الحقيقة الكاذبة ولكنها دقيقة، نتيجة التزوير والتززيف التوأمي، الذي يُصبح الحقيقي فيه والمزيف والمزور فيه كأنهما فعلين  وُلدا من بويضة واحدة . 
وهذا الإتقان الشبه كمالي في اقتراف التزييف والتزوير الحالي خصوصا ممن يستعمل الذكاء الاصطناعي  جعل المختصين يطلقون عليه، التزييف العميق، لكن خطره جعل آثاره ونتائجه أكبر لا يمكن حصر سلبياتها  بعد أن أصبح مريدوه ومن يحيكون زرابيه يستعينون في سبيل اتقانه، وإبعاد كل شبهة أو شك قد يتسرب لمن يستهلكه، بأسلحة شتى من أسلحة الذكاء الاصطناعي التي بدأت تنتقل من درج إلى آخر في سلم الاتقان في التزييف والتزوير، وهذا السلاح  التقني الفتاك والخطير، جعل التزييف والتزوير والتقليد في كل شيء من الخط الى الصورة أو الصوت أو حتى الابداع الفني والأدبي والعلمي في كل المجالات أسهل وأكثر دقة لا يحتاج على شخص  أو مختص أو باحث أو فنان ليفكر ويبدع ،  بل تحتاج فقط منصة تعتمد الذكاء الصناعي، لتجعل كل شيء بضغطة أُصبع وسؤال أو طلب مكتوب أو حتى أمر شفوي أن يخرج المارد الالكتروني الذكي من شاشة الهاتف أو الكمبيوتر، ليحضر لك كل ما تريد أو يُحَضِر لك كل الوجبات التي يمكن أن تبدأ من المطبخ وتنتهي في المختبر العلمي أو المعلقة الشعرية أو الأدبية، ولكن السؤال الذي يمكن أن نطرحه ونُسطر عليه بالخط والبند العريض، من أين يستقي الذكاء الاصطناعي كل معلوماته وكيف يعمل، وألا يشكل عمله سطوا وتزويرا وتزييفا لمجهودات الآخرين، وتغييرا لحقيقتها،  معلومات تتوفر عليها قاعدة بيانته يقديمها في شكل حقيقة جديدة ، كل ما احتاجته هو عجنها بمستحضرات تقنية تعتمد برامج حديثة، ، ليقدمها وكأنها ثمار خالصة من انتاجه أو ابداعه، وإن كانت في الحقيقة هي سطو يعتمد وسائل التقنية والتجميع الكمي الهائل للمعلومات وتصفيتها وتقديمها للطالب الراغب في شكل جديد لا ينسب فيه الفضل لأصحابه الحقيقيين بل ينسب الفضل فيه للذكاء الصناعي الذي أتقن فقط التفصيل والتقديم دون أن يحترم الأمانة العلمية وينسب الفضل لأصحابه كما كان يفعل كل باحث أمين هذا من جهة .
ومن جهة أخرى ألا يمكن أن نقول أن الذكاء الاصطناعي هو شرعنة كبرى للتزوير والتزييف والتطبيع معه، لأن كل معلوماته هي من إنتاج شخص أو أشخاص، ولكنه حين يقدم معلوماته وأجوبته، يقدمها باسم المنصة التي تُقدمها ويتغاضى عن ذكر كل معلومة عن منبع معلوماته، و من زاوية أخطر، ألا يمكن أن نعتبر أن الذكاء الاصطناعي يشكل تهديدا خطيرا للحقيقة في كل شيء ويجعل الجميع يعتقد أن الخطاب أو الكلمة أو الكتاب الخطي التي زيفها بعمق وزورها صادرة عن شخص أو مسؤول  أو مفكر وهي ليست كذلك، بل حقيقة مزيفة مغلفة بشكل متقن لا يمكن أن نقف على زيفها إلا بعد خروج من نسبت إليه ليفندها ويُبصم بكذبها. 
ومن ضلع أعوج آخر تكمن خطورة الذكاء الاصطناعي وما يستتبعها في أنها ستُمكن بسهولة كل من يريد أن يتنصل من تصريح أو كلمة خطها على الفضاء الأزرق،  وينكر حقيقتها، بالدفع فقط  بكون ما نُسب إليه مزور وغير حقيقي،  ويُلقي باللائمة على شيطان الذكاء الاصطناعي ودقته في التزييف والتزوير ليثير الشك عن حقيقة ما خطه أو صرح به أو صوره ، ، رغم أنها حقيقة صادرة عنه، وبطبيعة الحال نظرا لما عرفناه وسنعرفه عن تزييف وتزوير عميق نجحت وستنجح بشكل لا يمكن تصوره أدوات الذكاء الاصطناعي في تقديمه مستقبلا، سنصدق من أراد أن يقبر حقيقة ما قام به ويراجعه ويتراجع عنه، ويمحيه ويمتص مائه النتن بمنشفة الذكاء الصناعي بعد إلقاء اللوم عليها، وهذا سيجعل الذكاء الاصطناعي آنيا ومستقبلا، سلاح فتاك ذو حدين إن لم نقل ذو حدود لا يمكن التنبأ بها حاليا، قد يتم استعمال أحد طرفيه  آنيا لصنع حقيقة مزيفة ومزورة متقنة لدرجة تُقارب الكمال أو يتم استعمال حده الآخر لقتل جسم الحقيقة وخنقها بعد أن نقدمها على أنها حقيقة مزيفة ساهم الذكاء الصناعي في صنعها.
لذلك فالتعامل مع الذكاء الاصطناعي وما يشكله من تهديد للحقيقة بمفهوميها السلبي والإيجابي، يجعلنا نطالب الدولة المغربية وكل دول العالم بضرورة التحرك بشكل مستعجل لضبط كل البرامج التي تستعمل الذكاء الصناعي، بتنظيم قانوني مُحكم يستشرف ما يمكن أن يطرحه علينا مستقبل العبث بالحقيقة بواسطة آليات الذكاء الاصطناعي من مشاكل معقدة وعميقة، ومحاولة وضع نظام قانوني دقيق لمعالجة مشاكله وما سيطرحه من نزاعات مستقبلية.
وللإشارة فإن الخوف وعدم الأمان الذي استشعرته دول الاتحاد الأوروبي مما سيطرحه الذكاء الاصطناعي مستقبلا من مشاكل تهدد الحقيقة، ستجعل التفرقة بين ما هو حقيقي وما هو مزور ومزيف، جعلها تتقدم بمسودة قواعد تُلزم المنصات والأنظمة التي تستعمل الذكاء الإصطناعي، بالإفصاح عن ما تقدمه من محتوى، ووضع آليات تجعل المستهلك والجميع يُفرق بين الصور والأصوات والكتابات الحقيقية، وتلك التي تستعمل برامج التزييف والتزوير العميق، والتي تقدم ما هو غير حقيقي، وتصوره وتُقدمه كأنه جسم الحقيقة، وهذه الانتفاضة التي أعلنتها دول الاتحاد الأوروبي، هي في الحقيقة ناتجة عن دراسات حذرت من خطورة عدم تنظيم قطاع الذكاء الاصطناعي بترك  ما أصبح يصطلح عليه  بالتزييف العميق دون تشريع وتنظيم. 
لذلك علينا جميعا أشخاص ودول ومؤسسات أن نقف بسرعة وبدون انتظار، لنبدأ في مشاهدة واستقراء شاشة المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي حاليا وسيشكلها مستقبلا، ووضع قيود قانونية وأخلاقية تجنبنا الوقع في مطبات وحفر هذا التسونامي الرقمي الذكي الذي لا حدود له ولا أخلاق تجعل أسلاكه الخفية ستحمر من خجل ما سيأتيه وسيقترفه.

الأستاذ وهابي رشيد 

 المحامي بهيئة الجديدة

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة