هل كانت ترجمة قرار مجلس الأمن 2797 حيادية أو موجهة سياسيا؟
تُعدّ ترجمة الوثائق الصادرة عن الأمم المتحدة ممارسة تقنية عالية الدقة، تقوم على الالتزام الصارم بالنص الأصلي، وعلى الحفاظ على الحياد السياسي الذي يشكّل ركناً أساسياً في منظومة العمل متعدد اللغات داخل المنظمة. غير أنّ الترجمة العربية الأخيرة لقرار مجلس الأمن رقم 2797 (2025) المتعلق بقضية الصحراء، تثير إشكالات تتجاوز حدود اللغة، لتصل إلى تساؤلات جوهرية حول الحياد، وإمكانات التحيّز، وتأثير الترجمة في إعادة تشكيل المعاني والسياقات السياسية عبر اختيارات لغوية وتركيبية معينة. فبينما جاء النص الأصلي بالإنجليزية واضحًا في تحديد المرجعية الأساسية للحل—أي مبادرة الحكم الذاتي المغربية—انزلقت النسخة العربية في عدة مواضع إلى صيغ تُعيد بناء الرسالة الأممية بطريقة مختلفة، بل قد تُفهم في اتجاه مناقض لروح القرار.إن السؤال المركزي الذي يفرض نفسه هو: هل أخطأت الترجمة، أم عبّر النص العربي عن موقفٍ أيديولوجي من النزاع؟ هذا المقال يحاول تفكيك هذا السؤال عبر تحليل أهم الانزياحات الترجمية ودلالاتها السياسية. يصف القرار الأممي باللغة الانجليزية الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب بأنه "حل أكثر قابلية للتطبيق" (a most feasible outcome) ، بينما اختزلت النسخة العربية الرسمية الفكرة في أحد الحلول الممكنة، بإسقاط عبارة "حل من الحلول" داخل النص، التي لم ترد البَتَّةَ في النص الانجليزي، وقد تمت الترجمة على الشكل التالي: "حلاً من الحلول الأكثر قابلية للتطبيق"، وهو تعبير يثير إشكالاً دلالياً ومنهجياً، إذ يُعدّ انزياحاً عن الصياغة الأصلية بما قد يوحي بدرجة من الترجيح أو التفضيل غير المنصوص عليه في النص المعتمد، هذا الأمر الذي يُعدّ مساساً بمبدأ الحياد اللغوي الذي يفترض أن يحكم عملية الترجمة في الوثائق الأممية. إن هذه الترجمة لا تعكس النص الأصلي، بل تُضعف قوة القرار الأممي، لأنها تضع الحل المغربي مجرد بديل بين بدائل أخرى، على الرغم من أن النص الأممي في الأصل لا يتطرق إليها، وإنما يحث الأطراف على اقتراح أفكار، وليس بدائل، ويتحدث في إطار الحكم الذاتي دائما، ولهذا فإن صيغة "حل من الحلول"، تُحوِّل الحل المغربي إلى خيارٍ ثانويّ، وهذا يُناقض تمامًا نهج مجلس الأمن منذ 2018 الذي ينتقل إلى وصف المبادرة بأنها واقعية وذات مصداقية (serious, credible, realistic). بينما يضع النص الأممي مبادرة الحكم الذاتي كأساسٍ مرجعي للمفاوضات في النص الحالي؛ لكن الترجمة العربية الحالية، تُعيد تموضع الحل كـ “اقتراحٍ من بين الاقتراحات الأخرى، وتخلق مساواة مصطنعة بين المقترحات: ترى ما هي المقترحات الضمنية التي يدندن المترجم بها؟ هذا الانزياح ليس لغويًا محضًا، بل يمسّ صلب الرسالة السياسية للقرار.وبدلا من أن تقوم الترجمة العربية بترجمة النص الانجليزي (to support a final mutually-acceptable solution) الى "الحل السياسي النهائي المتوافق عليه"، قامت بترجمتها إلى " تدعم التوصل الى حل نهائي تقبله الاطراف،" وهذا تليين دلالي يفتح أبوابًا لم يقصدها النص الإنجليزي الذي يتحدث عن دعم الحل، وليس دعم المسار إلى الحل. إن إقحام كلمة "التوصل" في اللغة الأممية، تفتح الباب لإعادة فتح المسارات، بينما النص الأصلي يؤكد على دعم الحل المتوافق عليه، لأن الحل السياسي هو جوهر القرار، لكنه غائب أو ضُمِّن في صيغة خشبية وغير دقيقة، حيث ذهب النص العربي الى فتح مسارات عبر إدخال كلمة "التوصل". وتأتي عبارة "الحلّ السياسي النهائي المتوافق عليه" مرتين في النص الإنجليزي للقرار، وفي كلتا الحالتين تأتي مرتبطة — بصورة مباشرة أو ضمنية — بمبادرة الحكم الذاتي المغربية باعتبارها الإطار الذي يُبنى عليه الحل. فالذكر الأول يأتي مقترنًا صراحةً بالإشارة إلى الحكم الذاتي باعتباره المسار الواقعي والأساس التفاوضي، ويأتي الذكر الثاني في الجملة الختامية التي تحث الأطراف على تقديم أفكار— أي أفكار تعزّز الوصول إلى هذا الحل لا أن تُشكّل بدائل له. هذا التكرار المتطابق في الصياغة الإنجليزية يؤكّد أن مجلس الأمن يعتمد مبادرة الحكم الذاتي كإطار قانوني ثابت للحلّ السياسي. غير أنّ الترجمة العربية فصلت العبارة عن سياقها المرجعي حين صيغت على النحو الآتي: في آخر الفقرة: "ويشجّع الأطراف على طرح أفكار تدعم التوصل إلى حل نهائي تقبله الأطراف"، وهي صياغة تُوحي — خطأً — بوجود هامش مفتوح لخيارات أخرى لم تُذكر في النص الأصلي، وتُضعف بالتالي مركزية الحكم الذاتي في البنية القانونية للقرار، وتحوّل الفقرة من تأكيد إطار الحل إلى فتح الباب أمام احتمالات لم يطرحها النص الإنجليزي. نتيجة ذلك، يصبح وقع القرار — في نسخته العربية — أقل صرامة في تحديد الإطار التفاوضي، وأكثر ضبابية تجاه طبيعة الحل الذي يدعمه مجلس الأمن.إن ترجمة عبارة “mutually acceptable” إلى عبارة "تقبله الأطراف"، ليست دقيقة لا لغويًا ولا قانونيًا. فالتعبير الإنجليزي هو صيغة تقنية راسخة في منظومة الأمم المتحدة، ويُستخدم حصريًا للإشارة إلى "توافقٍ سياسي"—المتوافق عليه—نهائيّ مُلزم للأطراف، لا يخرج عن الإطار القانوني المحدد سلفًا، بمعنى آخر، هو اتفاق يتمّ الوصول إليه ضمن المسار الذي رسمته الأمم المتحدة وليس خارجه، وبما ينسجم مع مبادرة الحكم الذاتي التي تُعدّ الأساس الواقعي الوحيد في القرار. أمّا عبارة "تقبله الأطراف"، فهي أضعف دلالة، لأنها تُوحي بمجرد قبولٍ طوعي أو رغبة عامة، وتفتح الباب لتأويلات تُخرج النقاش عن المسار القانوني المُحدد. فهي تقلّل من البعد الإجرائي لعبارة “mutually acceptable” وتُفكّ ارتباطها بالحل النهائي الوارد صراحة في القرار، بما قد يُضعف مركزية الحكم الذاتي في البنية القانونية للنص الأممي.تتسم النسخة العربية للقرار بالانحرافً الواضح عن قوة اللغة القانونية الواردة في النص الأصلي، ولا سيما في ترجمة عبارات محورية مثل (calls upon recognizes, outcome, submit,)؛ فهذه الألفاظ تمتلك في قاموس الأمم المتحدة دلالات صريحة وحازمة، لكن الترجمة العربية الواردة جاءت مخفّفة وفضفاضة، ما أضعف أثرها القانوني. فمثلًا، تُعد كلمة outcome "نتيجة سياسية مُتفاوضًا عليها" ضمن مسار تفاوضي منضبط، لا مجرد "حلّ" كما ورد في الترجمة. أما عبارة calls upon، التي تستخدمها الأمم المتحدة للدلالة على الطلب الرسمي الملزِم سياسيًا — بمعاني "يدعو، يطالب، يطلب، يكلّف" — فقد استبدلت بلفظ "يهيب"، وهي صيغة أدبية أقرب للرجاء وليست جزءًا من لغة القرارات الدولية. وينطبق الأمر ذاته على recognizes التي تعني "يُقِرّ" اعترافًا أمميًا صريحًا، بينما جاءت الترجمة بعبارة "يسلّم" الأقل دقة وقوة. أما الفعل submit فقد تُرجم إلى “طرح أفكار”، وهو تحريف يحوّل الفعل الإجرائي الدقيق (تقديم رسمي) إلى صيغة عامة فضفاضة تقوّض الطابع الإلزامي المقصود في القرار. هكذا يفقد النص العربي دقته المفهومية ويُعيد تشكيل المعنى بطريقة تُضعف المقاربة القانونية التي أرادها مجلس الأمن.كل هذه الفروق الدقيقة تصنع المواقف السياسية، وبدت الترجمة ليست حيادًا… بل هي إفصاحٌ عن رؤية للصراع السياسي، مما يطرح هذا كله سؤالًا ضروريًا: هل المترجم مجرد ناقل محايد؟ تتحول الترجمة في النزاعات المعقّدة إلى أداة للتموضع، ووسيلة للتأثير على الجمهور العربي، وتقنية لإعادة تشكيل الصراع لغويًا. والنص العربي الذي ناقشناه يبدو أقرب إلى تفسيرٍ سياسي أكثر منه ترجمة تقنية؛ فهو يُعيد إدراج نظرة متوازنة بين المغرب وباقي الأطراف، بينما النص الأصلي للمجلس لا يمنح هذا التوازن. وهذا أمر لا يمكن تجاهله.هذه أسئلة سياسية مفتوحة حول خلفية المترجم في ظل هذه الانزياحات، إذ تظهر مجموعة من الأسئلة المشروعة: هل تأثرت الترجمة بخلفية أيديولوجية أو سياسية للمترجم؟ هل هناك محاولة لإضعاف دلالة "الحل المغربي" داخل الخطاب الأممي الرسمي بالعربية؟ هل الترجمة محاولة لإعادة كتابة "الخطاب الأممي" بما يخدم قراءة معينة للنزاع؟ تعتبر هذه الأسئلة جزءا من النقاش العمومي حول "لغة الصراعات".يعتبر قرار مجلس الأمن 2797 وثيقة قانونية وسياسية معقدة، ولكن ترجمتها العربية — كما ناقشناها بشكل مقتضب — تُظهر أنّ اللغة ليست أداة بريئة، فالترجمة الخاطئة أو المنزاحة لا تُغيّر المعنى فقط، بل قد تُغيّر موقع الأطراف داخل النص الأممي. في نزاع طويل مثل الصحراء، لا يمكن تحميل النصوص الرسمية بمعانٍ جديدة عبر ترجمات فضفاضة أو متردّدة. إنّ الدفاع عن الدقة الترجمية هو، في النهاية، دفاع عن الوضوح السياسي واحترام قواعد السلم الدولي. ويظل السؤال معلّقًا: هل نحتاج إلى مراقبة علمية للترجمات العربية للوثائق الأممية، أم نكتفي بأن تكون الترجمة نفسها جزءًا من الصراع؟ذ. محمد معروف، ذ. نورالدين الزويتني—جامعة شعيب الدكالي