كلية الآداب بالجديدة.. غياب روح الفريق وسيادة منطق الجماعة
كلية الآداب بالجديدة.. غياب روح الفريق وسيادة منطق الجماعة

ما يهمنا في هذا المقام هو بلورة تصور نظري حول ذهنية تسيير المؤسسات العمومية وثقافة عملها، إذ نسوق لكم في معرض حديثنا عن هذه الذهنية نموذج الجامعة المغربية، وكلية الآداب بالجديدة تحديدا، وذلك نظرا لاشتغالنا بهذا الفضاء منذ عقود، ودرايتنا بخبايا التسيير الإداري بين ثناياها. وما تمت بلورته من أفكار منهجية في هذا السياق، يقوم بالأساس على الملاحظة بالمشاركة في هذا القطاع الحيوي الذي يٌفترض فيه جدلا أن يشكل مختبرا لإنتاج الكفايات المهنية والعلوم الحديثة، لكن الواقع يصدح بمشاكل إدارية وبيداغوجية يتخبط فيها القطاع، نذكر منها في هذا السياق سطوة الجماعة بدلا من عمل الفريق المتكامل.

 لماذا تغيب روح الفريق ويسود منطق الجماعة بكلية الآداب بالجديدة؟  

يشكل تاريخ كلية الآداب بالجديدة منذ إنشائها في ثمانيات القرن الماضي منعطفا حاسما في تشكل جماعة تتحكم في عصب إدارة الكلية، حيث أفرز العمل النقابي آنذاك جماعة دأبت على اجتماع مقاهي المدينة، ورسمت خططا شتى قصد الإطاحة بإدارة مستبدة في نظرها، ومع مرور الوقت وتغير السياق الاقتصادي والسياسي، نجحت هذه الجماعة فعلا في إزاحة عمداء مستقلين، ثم تسلل بعض أعضائها إلى مراكز القرار، ومنذ ذلك العهد، وهي تحصّن نفسها ضد أي خطر خارجي يتهدد مصالحها وامتيازات أعضائها في تسيير الكلية، بل قامت برسم خرائط المجالس والشعب وتحكمت في لجن التوظيف إلى درجة أنها أصبحت آلية مؤسساتية تقتضيها  طبيعة التسيير، ولا يمكن الاستغناء عنها. 

إن السؤال المطروح علينا الآن هو: هل انصهرت الجماعة في المؤسسة، بمعنى أنها تمازجت مع المصلحة العامة، أم أنها ابتلعت المؤسسة بالقوة الناعمة إلى درجة أن أطر هذه المؤسسة لا يستطيعون التمييز بين المؤسسة والجماعة؟ كيف تشتغل هذه الجماعة ؟ كيف تتمثل العمل؟و ما هي قيم السوق التي تؤمن بها وتطبقها في تسيير الشأن العام؟ 

من أجل بقائها في سوق القيم الزائفة التي أفسدت المجتمع، أحاطت هذه الجماعة نفسها بمجموعة من القيم كالتسليك والترقيع والتسطيح، وحصنت نفسها ضد قيم الجودة والتنافسية التي تهدد نسيجها بالتشتيت والتمزيق، فالجماعة عدو للمنافسة، فليس من قواميسها الجودة والتفوق والإنتاج، بل هي نسيج يحاك حول مبدأ الولاء والذوبان الدمجي في الجماعة مع البراء من المنافسة والتفوق الفرداني.

تشتغل الجماعة السائدة في كلية الآداب بثقافة العلاقات الدمجية، وبمنطق الولاء والبراء، مقتلعة الكلية بذلك من سياقها المؤسساتي الطبيعي الذي ينبني بالأساس على خطاطات مهنية مستقاة من روح الفريق والثقافة التشاركية، كما هو الشأن في سياقات مؤسساتية واعية، فبينما تشكل المؤسسة هوية الفرد بفضل بنياتها المتناسقة و تقاليدها المهنية وضوابطها البيداغوجية، تشتغل المؤسسة التي أعمل فيها بمنطق الجماعة، ولا يتم تطبيق القوانين والضوابط البيداغوجية فيها إلا بمنطق الجماعة، ونستحضر هنا قضية الأستاذ الذي أرسل إلى الفحص الطبي المضاد عقابا له على الكتابة الصحافية ضد الجماعة، إذ تم تطبيق مسطرة نائمة تاريخيا في حقه، بينما يستفيد أنصار الجماعة من الإجازات الطبية المفتوحة، كما يستفيد آخرون من تفرغات "حسي مسي"، ناهيك عن أساتذة من الجماعة يقطنون في الخارج بفضل مظلتها.   

يحتمي العديد من الأساتذة والموظفين في كلية الآداب بهذه الجماعة التي تشكل تحالف مصالح، فيستمد العضو منها قوته ويحتمي بها عند ظهور خطر خارجي، وتعتبر الجماعة التي تتحكم في عصب تسيير المؤسسة جماعة مغلقة، وذلك لأنها في نظرنا تقسم العالم إلى شطرين متناقضين تماما: الداخل منبع الخير، والخارج محور الشر. وعلى ذكر هذه الثنائية الاستقطابية، يوم التحقت بمجلس الكلية بصفتي منسقا للشعبة، ابتسم أحد قادة الجماعة ، وقال لرفقائه: "هو الآن معنا ولن يكتب علينا مستقبلا!"، لكن مع الأسف خابت توقعاته، إذ تطورت الأحداث داخل المجلس، فشكلت مصدر إزعاج للجماعة أدت بي إلى الاستقالة من مهامي، وأعترف أنني انسحبت أمام قوة هذه الجماعة. لقد علمتني هذه التجربة أن الجماعة لا تؤمن بالوسطية في المواقف، فالأصوات التي تعارض مصالحها، تشكل بالنسبة لها مصدر تهديد وخطر، وبذلك تقيم معها علاقات عدائية اضطهادية، قد تتأرجح بين مواقف الحذر والتجنب مثل" هداك راه ما مضمونش" أو الهجوم والتدمير، كما حصل بالنسبة لأساتذة تم تهديدهم بالمجالس التأديبية أو تشويه سمعتهم الأكاديمية وإجلائهم من الكلية. 

عادة ما تنتعش الجماعة بالإسقاطات والانشطار العاطفي، إذ تتبنى مواقف قطعية ضد الزملاء الذين يخالفون منهجيتها في التسيير، وتسقط عليهم كل الموانع الذاتية والموضوعية التي تعانيها، وعندما تفشل في تدبير الشأن العام، تُسقِط فشلها "بتعزير" الخصوم والأعداء، ولم تشهد الكلية أن الجماعة اعترفت  بأخطائها، وعلى النهج نفسه، يعتبر كل من ينتمي إلى الجماعة نموذجا يحتدى به، بل قد يتحول بعض قادتها إلى مرآة تعكس للآخرين ذواتهم الإيجابية، وترتفع درجة النرجسية بين أفرادها رغم نحافة العديد منهم معرفيا، كما ترتفع درجة الذوبان في الجماعة والتعصب المفرط لتقاليدها، مما يجعل ردود الأفعال أحيانا عنيفا ضد كل من يحاول خرق تقاليد الجماعة من الداخل أو الاعتداء عليها من الخارج. 

 

لماذا تشيع هذه الظاهرة كثيراً بجامعتنا إلى درجة أن الانتماء إلى الجماعة أصبح أولوية قصوى يفوق الانتماء إلى كلية الآداب بجامعة شعيب الدكالي؟ بل أكاد اجزم أن عملية التوظيف هي الأخرى، قد تخضع لمنطق الذوبان في الجماعة، حتى تتمكن الجماعة من توظيف أستاذة مهادنين " ما يخلقوش المشاكل"، خاضعين للجماعة، وهكذا رسمت ذهنية الجماعة خريطة اجتماعية بكلية الآداب تتكون من ثلاثة أصناف أساسية: "أعضاء الجماعة" و "المغضوب عليهم" الذين  يوضعون في لوائح سوداء، ثم الباقي، وهم "الغرباء" عن الجماعة (من القسم إلى مرأب السيارات -- غير منخرطين في أنشطتها الاحتفالية).  

وتشكل الجماعة أكبر العقبات إزاء تطوير الجامعة، فهي تنازع المؤسسة في ملكية موظفيها، وتحدد هويتهم باعتبارهم أفرادا من الجماعة قبل انتمائهم إلى المؤسسة الأكاديمية، بل إن شروط الوظيفة ذاتها تٌختزل ضمنيا في الولاء للجماعة قبل الأداء في المؤسسة، والانتماء بهذا الشكل الذوباني يقف عائقا قويا أمام الانتماء المؤسساتي  بروح الفريق، بل يمنع بروز المصلحة العامة وغلبتها لصالح سيادة مصلحة الجماعة، وطالما تخدم المصلحة العامة نفوذ الجماعة ومصالحها، فهذه الأخيرة تدعم شعاراتها، لكن حين تهدد المصلحة العامة مصلحتها الخاصة أو امتيازاتها، تنقلب عليها لثنيها في الاتجاه المعاكس: هذه هي عقلية الجماعة!

وفي الختام، يظهر جليا من خلال هذا التحليل أن التسيير الإداري بمنطق الجماعة يقتل روح الفريق ويقمع الهوية المؤسساتية، فكيف يمكن لإدارة أن تنهض، وهي مُختطفة من طرف جماعة مصالح تقسِّم العالم إلى "خارج شرير متمرد" و"داخل خيِّر مهادن رخو"؟ هل هو قدر محتوم أن ترث الأجيال بنيات مخزنية ماضوية، صنعت نظام إنتاج خدمات وعلاقات وتوزيعها بمنطق التحالف الدمجي؟ كيف سنغير مؤسساتيا، ونحن محاصرون بتحالف الجماعات وسطوتها؟ فهل من المعقول أن يعمل مستشفى أو جامعة  بشكل جيد وأداء فعال، وهما مختطفان من طرف جماعات تبحث عن مصالح أفرادها؟ كيف يمكن النهوض بالمؤسسات في ظل جماعات متحكمة في عصب التسيير؟ متى كانت الجماعة تؤمن بقيم المساواة والمشاركة والعدالة والتحرر والمنافسة الإيجابية والنجاح؟ وهل يمكن أن تُقلع المؤسسات بدون هذه القيم؟ إن الجماعة بتمثلاتها الذوبانية الدمجية تشكل عقبة فعلية أمام تطوير المؤسسات وخلق مناخ للتغيير والإبداع.  

ذ، محمد معروف، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة .

 

 

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة