قاعات جلسات، لا قاعات مآتم وجنازات ...
قاعات جلسات، لا قاعات مآتم وجنازات ...

صادق مجلس النواب أخيرا على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة ، الذي أقر الرفع من سن تقاعد القضاة الى 65 سنة ، مع امكانية التمديدات المتتالية لأربع مرات ، و هو التوجه الذي كان منتظرا بالنظر للاشارات التي تضمنها " الميثاق الوطني لاصلاح منظومة العدالة" ، كما افرد مشروع القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية كما صودق عليه هو الآخر من طرف مجلس النواب معايير التمديد و تجديده ، فهل هذا "الاصلاح "ينسجم مع مبادئ استقلال القضاء ، أم أنه ارتداد و تراجع عن وضع كان يضمن العديد من الضمانات بمقتضى أول نظام اساسي لرجال القضاء بعد الاستقلال ، ثم هل هذا التعديل استند على دراسات خاصة تنسجم و قواعد وضع الأنظمة الخاصة . لمعالجة هذا الموضوع ارتأيت مناقشته من خلال نقطتين أساسيتين ، أتناول في الأولى تمديد حد سن تقاعد القضاة بين الاقرار و المنع ، و في الثانية الرفع من سن تقاعد القضاة و اصلاح صناديق التقاعد ..

1- أنظمة تقاعد القضاة بين منع التمديد و اقراره:

لقد عرف نظام تقاعد القضاة بالمغرب اعتماد نموذجين متباينين ، فالنموذج الأول كان يقوم على منع تمديد حد سن تقاعد القضاة ، و هو الوضع الذي كان سائدا في المغرب قبل الاستقلال بمقتضى ظهير 6 يوليوز 1954 الذي حدد مقتضيات استثنائية للسن الذي كان يحال فيه القضاة على التقاعد ، اذ نص في فصله الأول على أنه يحدد في سبعين سنة السن الذي يحال فيه القضاة على المعاش و ذلك حيادا على المقتضيات المحددة للسن الذي يحال فيه على التقاعد الموظفون و الأعوان التابعون للمصالح العمومية للدولة الشريفة ، و لم يكن الظهير المذكور ينص على امكانية تمديد حد سن التقاعد بشكل مطلق ، و استمر نفس الوضع بعد صدور النظام الأساسي لرجال القضاء بمقتضى الفصل 31 من ظهير 30 دجنبر 1958 الذي كان ينص على أن حد سن التقاعد ينحصر في سبعين سنة بالنسبة لقضاة المجلس الأعلى و في خمس و ستين سنة بالنسبة لباقي الهيئات القضائية الأخرى ، و أنه لا يمكن أن يمدد الحدان لأي سبب من الأسباب.

فالنظام الأساسي لرجال القضاء الصادر بتاريخ 30 دجنبر 1958 باعتباره أول قانون منظم للوضعيات الفردية للقضاة بعد الاستقلال ، منع التمديد للقضاة بجميع درجاتهم و مسؤولياتهم لأي سبب من الأسباب ، كما أنه لم يتضمن قواعد استثنائية للتقاعد بالنسبة للرئيس الأول للمجلس الأعلى و الوكيل العام للملك لديه .

أما النموذج الثاني فهو الذي يقوم على وضع قواعد استثنائية لتمديد حد سن التقاعد لبعض القضاة و هو ما تضمنه الفصل 65 من ظهير 11 نونبر 1974 المعتبر بمثابة النظام الأساسي لرجال القضاء، الذي ميز بين سن تقاعد قضاة المجلس الأعلى و باقي القضاة ، و حدد سن التقاعد في خمس و ستين سنة بالنسبة للقضاة المعينين بصفة نظامية بالمجلس الأعلى ، و ستين سنة بالنسبة لغيرهم من القضاة ، ونظم لأول مرة امكانية تمديد حد سن التقاعد بظهير لمدة اقصاها سنتان قابلة للتجديد مرة واحدة باقتراح من وزير العدل بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء ، و ذلك بالنسبة لقضاة جميع الدرجات عندما يثبت ان الاحتفاظ بالقاضي ضروري لمصلحة العمل .

الا ان التمييز بين سن الاحالة على التقاعد بين قضاة المجلس الأعلى و غيرهم من القضاة لم يعمر طويلا ، فتم تعديل الفصل 65 من النظام الأساسي للقضاة بمقتضى ظهير 12 يوليوز 1977 ، الذي حدد سن التقاعد بالنسبة لجميع القضاة في ستين سنة ، غير أنه أتاح امكانية التمديد لمدة أقصاها سنتان قابلة للتجديد مرتين ، و هو الوضع الذي استمر الى حد الآن .

ان تمديد حد سن تقاعد القضاة كان يعتبر بمقتضى ظهير 11 نونبر 1974 استثناءا من القاعدة المحددة لسن الاحالة على التقاعد ، اذ كان ينص الفصل 65 على أنه يمكن تمديد سن التقاعد لفترة سنتين قابلة للتجديد مرة واحدة ، و نظرا لأن هذه المكنة كانت تشكل مدخلا للاحتفاظ بالقضاة ووضع امكانية التمديد بناء على اقتراح وزير العدل بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء ، فإنها كانت تستعمل بشكل أو بآخر للإبقاء على بعض القضاة دون سواهم في غياب معايير موضوعية تضمن استقلالهم و استقلال السلطة القضائية ، و بالنظر للسياقات السياسية و الاجتماعية التي عرفها المغرب خلال هذه المرحلة فقد سارع المشرع الى توسيع دائرة الاستثناء و ذلك بالنص على امكانية التجديد لمرتين بمقتضى ظهير 12 يوليوز 1977 ، و هو ما تسبب في ارتفاع عدد التمديدات حتى تحول الاستثناء الى قاعدة ، اذ حسب التوضيحات التي قدمتها وزارة العدل و الحريات على ضوء الاعلان عن نتائج المجلس الأعلى للقضاء خلال دورة ماي 2013 ، فقد تم تمديد سن التقاعد بالنسبة ل 46 قاضيا للمرة الأولى ، و 37 قاضيا للمرة الثانية و 22 قاضيا للمرة الثالثة واحالة 42 قاضيا الى التقاعد لبلوغهم حد سن التقاعد أو بعد انهائهم الفترة الأولى أو الثانية لتمديد حد سن تقاعدهم بعدما ظهر من دراسة ملفاتهم أنه ليست هناك مصلحة تدعو الى ضرورة الاحتفاظ بهم .

2- الرفع من سن تقاعد القضاة و اصلاح صناديق التقاعد:

معلوم أن النقاش العمومي بشأن اصلاح أنظمة التقاعد بدأ منذ انعقاد المناظرة الوطنية حول إصلاح أنظمة التقاعد في دجنبر 2003 ، اعتبارا للصعوبات المالية التي عرفتها جل هذه الأنظمة ، و خاصة نظام المعاشات المدنية ، حيث تم على إثر ذلك الرفع من نسبة المساهمات من 14 إلى 20 % على مدى ثلاث سنوات كإجراء استعجالي لتفادي العجز المرتقب آنذاك للنظام ابتداء من سنة 2007، وبغية وضع إصلاح شامل أنشئت في يناير 2004 لجنة وطنية مكلفة بإصلاح أنظمة التقاعد تحت إشراف رئيس الحكومة انبثقت عنها لجنة تقنية عهد إلى مديرية التأمينات والاحتياط الاجتماعي بوزارة الاقتصاد والمالية بتنسيق أعمالها.

و في نفس المنحى جاء في تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول انظمة التقاعد أن وضعية أنظمة المعاشات المدنية للصندوق المغربي للتقاعد تعرف وضعا مقلقا ليس فقط بسبب حجم الدين غير المؤمن الذي بلغ مستوى جد مرتفع و صل الى 583 مليار درهم بالمقارنة مع الصناديق الأخرى ، و لكن أيضا بسبب بلوغه مرحلة العجز النهائي عن الوفاء بالالتزامات و التي من المنظر أن تحل في افق لا يتجاوزسنة 2021 ،و لهذا اقترح نفس المجلس اعتماد الإصلاح المقياسي المتمثل في رفع سن التقاعد تدريجيا على المدى البعيد ، و تعديل نسب المساهمة ووعاء التصفية.

و هو نفس التصور الذي قدمه المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي و الذي انتهى الى أن السيناريو المقترح من اللجنة الوطنية سيؤدي الى اقرار التوازن المالي للنظام ،

و رغم وضوح التوجهات العامة للاصلاح صناديق التقاعد ، فان مسودة مشروع النظام الأساسي للقضاة وفق صيغة 23 أكتوبر 2013 ، نصت في المادة 41 على وضع خيارين ، الاول يروم الى تحديد سن التقاعد بالنسبة للقضاة في ستين سنة ، و يمكن تمديد حد السن المذكور لمدة أقصاها سنتان قابلة للتجديد مرة واحدة ، اما الثاني فقد ذهب الى اقتراح تحديد سن التقاعد في ستين سنة ، على أنه يمكن تمديده لمدة أقصاها سنتان قابلة للتجديد ثلاث مرات ، كما تضمنت استثناءا تمثل في اقتراح استمرار الرئيس الأول لمحكمة النقض و الوكيل العام لديها في مزاولة مهامهما الى حين صدور ظهير بانهاء مهمتهما، و قد سايرت المسودة وفق صيغة 25 دجنبر 2013 المقترح الأول من الصيغة السابقة من خلال ما تضمنته المادة 43 منه .

لكن المرسوم الذي أصدرته الحكومة بين دورات انعقاد البرلمان بتاريخ 1 شتنبر 2014 و القاضي برفع حد سن التقاعد الى 65 سنة بالنسبة لموظفي الدولة و البلديات و المؤسسات العمومية المنخرطين في نظام المعاشات المدنية ، و الذي تمت المصادقة عليه بمقتضى قانون رقم 14-85 بتاريخ 2-4-2015 ، كان له تأثير على التوجه المعتمد بهذا الشأن ، اذ تضمنت صيغة المشروع كما صادقت عليه لجنة العدل و التشريع تحديد سن التقاعد في 65 سنة ، مع امكانية التمديد لمدة أقصاها سنة واحدة قابلة للتجديد أربع مرات .

كما نصت المادة 116 بعض الاحكام الانتقالية بخصوص القضاة الموجودين في حالة تمديد حد سن التقاعد أثناء دخول القانون حيز التنفيذ ، و ذلك بالنص على امكانية التجديد لهم لمدة اقصاها سنة واحدة قابلة للتجديد لنفس الفترة الى حين بلوغهم سن سبعين 70 سنة .

ورغم ان تمديد حد سن التقاعد يرتبط بمبادئ استقلال القضاة لعلاقته الوثيقة بمبادئ الثبات في المنصب القضائي الذي يدعم الشعور بالاستقلال و عدم ارتباط الاستمرار بالمنصب القضائي بارادة أية جهة كانت ، فقد عمل مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية على وضع مجموعة من المعايير عند نظر نفس المجلس في تمديد حد سن التقاعد او تجديدها بمقتضى المادة 82 منه و المتمثلة في المصلحة القضائية ،الأداء المهني للقاضي و خاصة خلال الخمس سنوات السابقة لبلوغه حد سن التقاعد ، القدرة الصحية للقاضي ، وموافقة المعني بالأمر .

والملاحظ ان المعايير المحددة تبقى جد مبهمة و فضفاضة و خاصة مدلول المصلحة القضائية ، و الأداء المهني للقاضي خلال خمس سنوات ، و الذي بدوره سيعتمد على تقارير التقييم التي يعدها المسؤولون القضائيون بالمحاكم ، و بالتالي سيبقى موضوع التمديد و تجديده مرتبطا برغبات ذاتية لسلطة التقييم و المفاهيم الغامضة التي اعتمدها المجلس طيلة عقود للبت في كل الوضعيات الفردية للقضاة تحت مسمى " المصلحة القضائية".

وهكذا يتضح أن مشروعي القانونين التنظيمين المتعلقين بالنظام الأساسي للقضاة و المجلس الأعلى للسلطة القضائية أعدا بمنطق الوظيفة و ذلك باحالتهما على الشروط المنصوص عليها في مقتضيات نظام المعاشات المدنية ، متجاهلين طبيعة الدور الذي يقوم به القضاة و الذي كان يقتضي اقرار نظام خاص للتقاعد يراعي طبيعة البنية العمرية للقضاة و مبادئ السلطة القضاء حتى لا تتحول قاعات الجلسات الى قاعات مآتم و جنازات .

*عضو بنادي قضاة المغرب والمرصد الوطني لاستقلال السلطة القضائية

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة