المحاكمات الافتراضية ومخاطر تفكيك مركزية السلطة القضائية
ما كنت أعلم وأنا الذي نهلت من معين القانون وخبرت دروبه أن منصات التواصل الاجتماعي تزخر بنخبة من العارفين بالقانون الجنائي - من الواضح – أنه لا مكان لهم في المناصب التي تحدتها الدوائر الرسمية لكن كلما وقعت جريمة ما - هنا أو هناك - تجدهم يتقمصون أدوار القائمين على تطبيق القانون من ضباط للشرطة القضائية - قضاة النيابة العامة - قضاة التحقيق وحتى قضاة الحكم ،ينتقلون إلى مسرح الحادث ،يسألون الشهود ،يكيفون الفعل الجرمي وأخيرا وفي وقت قياسي ودون مراعاة لشروط المحاكمة العادلة يصدرون الأحكام على المنصات الإلكترونية . لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هذه في العصر الحديث ساحة بديلة للمحاكم حيت تتداول القضايا وتصدر الأحكام وتشن الحملات بتوجيه من المؤثرين بعيدا عن قاعات العدالة وسياقاتها القانونية ومع الانتشار الواسع لهذه المنصات لم تعد الحقيقة وحدها ما يتداول بل اختلط الرأي بالمعلومة والعاطفة بالواقع، هذا السلوك يمثل خرقا سافرا لمبدأ قرينة البراءة الذي ينص على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته وهو من المبادئ الراسخة في الأنظمة القضائية العادلة.في كتير من الأحيان تتصدر قضايا قانونية معينة الرأي العام الرقمي لينهال سيل من الاتهامات والتعليقات التي تسبق التحقيقات الرسمية وتمارس ضغوطا هائلة على الأطراف المعنية بما في ذلك الضحايا والمتهمين وحتى القضاة أنفسهم هذه المحاكمات الافتراضية غالبا ما تؤثر على سير العدالة وقد تؤدي إلى التشهير أو تحريف الحقائق أو خلق صورة نمطية يصعب التخلص منها حتى بعد صدور الأحكام القضائية الحقيقية. هذا السلوك – المجانب للصواب - المبني على الترافع من خلال منصات التواصل الاجتماعي قد يتسبب في إنشاء خطاطة اجتماعية تطبع مع المحاكمات الافتراضية مما قد يؤدي إلى تفكيك السلطة القانونية لدى المحاكم وتحويلها إلى العالم الافتراضي حيت يحل محل رجال القانون الرسميين مؤثرون بدون خلفية أو رصيد قانوني. من ناحية أخرى لا يمكن إنكار أن وسائل التواصل الاجتماعي قد أسهمت أحيانا في إماطة اللثام على قضايا كانت لتطمس في الظل ودفعت نحو العدالة في حالات كان الصمت فيها سيد الموقف لقد باتت أداة ضغط جماهيري قوية لكنها سيف ذو حدين يتطلب الوعي والانضباط الأخلاقي في استخدامها. إن المحاكمة العادلة تتطلب بيئة تحفظ سرية التحقيق وتحترم قرينة البراءة وتفصل بين العاطفة والحقيقة وما يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي رغم تعبيره عن نبض الناس لا يجب أن يكون بديلا عن المؤسسات القضائية بل داعما للعدالة حين يستخدم بمسؤولية. في النهاية تظل الحرية مسؤولية والكلمة أمانة وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي منابر للتفكير والتعبير فإن العدالة منبر للحق ولا يجب أن يخلط بينهما لأن العدالة مهما تأخرت تبقى أصدق من آلاف الأحكام التي تصدرها وسائل التواصل في لحظة غضب أو اندفاع. *الدكتور. نورالدين العمادي باحث في الحوار الديني والثقافي في الحضارة الإسلاميةا