-
موسم مولاي عبد الله.. حين تتحول الأرقام إلى دعاية لا تعكس الواقع
أثار البلاغ الصحافي الصادر عن اللجنة المنظمة لموسم مولاي عبد الله الكثير من الجدل، بعدما تحدث عن رقم معاملات يفوق 5 مليارات سنتيم (50 مليون درهم) خلال الموسم، معتبرًا إياه "رافعة اقتصادية كبرى". كما لمّح البلاغ إلى استقطاب "مئات الآلاف من الزوار"، في وقت يتم تداول أرقام خيالية تتحدث عن ملايين الوافدين. غير أن قراءة موضوعية للمعطيات الميدانية تكشف أن هذه الأرقام لا تعدو أن تكون مبالغات دعائية أكثر من كونها مؤشرات دقيقة.فضاء محدود.. فكيف لملايين الزوار أن يتدفقوا؟يقام موسم مولاي عبد الله في فضاء لا يتجاوز 5 إلى 6 كيلومترات مربعة، وهو مجال لا يمكنه أن يستوعب أكثر من 500 ألف زائر في اللحظة الواحدة. وحتى لو تم افتراض امتلاء هذا الفضاء عن آخره يوميًا، فإن مجموع الحضور لن يصل بأي حال إلى 6 ملايين شخص كما يروّج البعض.للمقارنة فقط، فإن مهرجان موازين بالرباط، الذي يستند إلى بنية تحتية قوية ومدينة كبيرة ، لا يتجاوز في أفضل دوراته 3 ملايين زائر، فكيف يعقل أن يستقطب موسم تقليدي ببنية هشة ضعف هذا الرقم؟رقم معاملات مبالغ فيه... ؟؟أما الرقم المعلن بخصوص 5 مليارات سنتيم، فيصعب تقبله بالمنطق الاقتصادي.إذا افترضنا وجود 2000 بائع داخل الموسم، فإن هذا الرقم يعني أن كل واحد منهم حقق معاملات تفوق 25 ألف درهم خلال تسعة أيام فقط، وهو ما يتنافى مع القدرة الشرائية للفئات الشعبية التي تشكل غالبية الزوار.كما أن غياب أي نظام للفوترة أو المراقبة يجعل من المستحيل الحصول على تقديرات دقيقة، ما يجعل الأرقام المعلنة أقرب إلى التخمينات السياسية منها إلى الإحصاءات العلمية.البنية التحتية لا تدعم الأرقامالموسم يفتقر إلى مواقف سيارات منظمة، مرافق صحية كافية، أو وسائل نقل عمومية يمكنها استيعاب ملايين الوافدين المزعومين. كما أن الطاقة الاستيعابية للمنازل المعدة للكراء في المنطقة محدودة جدًا، ما يجعل الحديث عن أعداد خيالية من الزوار أمرًا يفتقد إلى أي منطق واقعي.بين الأسطورة والواقعلا شك أن موسم مولاي عبد الله حدث تراثي واجتماعي كبير، يسهم في تحريك عجلة التجارة المحلية بشكل ظرفي، ويمنح المنطقة إشعاعًا سياحيًا. لكن الحقيقة أن التضخيم في الأرقام يفقد الموسم مصداقيته بدل أن يعززها.الأجدر بالمسؤولين هو تقديم إحصاءات دقيقة وشفافة، وربطها بمشاريع تنموية ملموسة لتحسين البنية والخدمات، بدل الاكتفاء بـ"أرقام دعائية" لا تقنع سوى من يروجها.بين بلاغ رسمي يتحدث عن 5 مليارات سنتيم وملايين الزوار، وواقع ميداني يشي بعكس ذلك، يظل موسم مولاي عبد الله بحاجة إلى تقييم موضوعي يضعه في حجمه الطبيعي، لكنه ليس الأسطورة الاقتصادية التي يصورها الخطاب الرسمي.
-
موسم مولاي عبد الله… تكدّس، غياب تنمية، وأزمة كرامة بشرية
في كل صيف، يتدفق مئات الآلاف، بل الملايين، نحو موسم مولاي عبد الله أمغار، ذلك الحدث التراثي الذي يمتد لأكثر من عشرة أيام ويستقطب ما بين 4 إلى 4.5 ملايين زائر، مع توقعات بتجاوز 5 ملايين هذا العام. مشهد الطرقات يصبح لوحة فوضوية: مئات السيارات عالقة في طوابير لا تنتهي، شاحنات وطريبورطورات مكتظة بالبشر، وازدحام خانق يجعل التنقل مهمة شبه مستحيلة.على مساحة تفوق 120 هكتارًا، تُنصب 25 ألف خيمة ويشارك أكثر من 2200 فارس ضمن 126 سربة (في بعض الدورات وصل العدد المتوقع إلى 25 ألف فارس). هذه الأرقام تكشف حجم الحدث، لكنها في الوقت نفسه تفضح الهوة الكبيرة بينه وبين البنية التحتية اللازمة لاستيعابه.ورغم أن الموسم يحقق رواجًا اقتصاديًا ضخمًا يقدَّر بما بين 70 و100 مليار سنتيم في عشرة أيام فقط، فإن مظاهر التنمية الأساسية تبقى شبه غائبة. هنا يظهر تناقض صارخ: ملايين الزوار، مليارات تتدفق، وغياب حلول بسيطة تضمن الكرامة الإنسانية.أحد أبرز أوجه القصور يكمن في النقص الحاد في المراحيض العامة. آلاف الزوار يضطرون للبحث عن أماكن معزولة على الشواطئ، بين الصخور أو خلف الخيام لقضاء حاجاتهم، في مشهد يفتقر لأدنى شروط الصحة والنظافة. ومع مشاركة آلاف الخيول في "التبوريدة"، تتضاعف المشكلة بانتشار الفضلات الحيوانية في فضاء الموسم، ما يزيد من الروائح الكريهة والمخاطر الصحية.مقارنة مع معايير المهرجانات الدوليةفي مهرجانات عالمية كـ مهرجان "غلاستونبري" في بريطانيا (200 ألف زائر فقط)، يُخصص مرحاض واحد لكل 100 شخص، مع فرق صيانة على مدار الساعة ومناطق غسيل يدين مجهزة. أما في مهرجان "أوكتوبيرفست" في ألمانيا (6 ملايين زائر خلال 16 يومًا)، فتنتشر المراحيض المتنقلة والثابتة كل 100 متر تقريبًا، وتُراقب وتُنظف بشكل مستمر.في المقابل، يستقبل موسم مولاي عبد الله ملايين الزوار دون بيانات رسمية دقيقة عن عدد المراحيض، لكن الشهادات الحية تؤكد أن النسبة لا تتعدى مرحاضًا واحدًا لكل عدة آلاف من الأشخاص، إن وُجد أصلاً في بعض المناطق. هذا يعكس فجوة تنظيمية واضحة، ليست في عدد الزوار بل في غياب رؤية تخطيطية وخدمات أساسية تراعي الصحة العامة وكرامة الإنسان.تساؤلات جوهريةكيف يُعقل أن حدثًا بهذا الحجم الاقتصادي والبشري لا يوفّر الحد الأدنى من المرافق الصحية؟أين يقضي ملايين الزوار حاجاتهم الطبيعية في ظل هذا النقص الفادح؟هل تُحسب تكلفة الأضرار البيئية الناتجة عن الفضلات البشرية والحيوانية في ميزانية الموسم؟لماذا لا تُستثمر جزء من عائدات الموسم في إنشاء بنية تحتية دائمة أو على الأقل حلول متنقلة وفق المعايير الدولية؟ختامًا، إذا كان موسم مولاي عبد الله علامة تراثية كبرى، فإنه يستحق أن يكون أيضًا نموذجًا للتنظيم العصري، بتوفير مراحيض متنقلة كافية، ونقاط مياه، وخطط مرور ذكية، حتى يظل الاحتفاء بالتراث مقرونًا بصون الكرامة والبيئة معًا.
-
تنامي حوادث القنص في المغرب.. بين غياب التأطير وتعطيل القوانين
يشهد موسم القنص في المغرب، مع بداياته كل سنة، ارتفاعًا لافتًا في عدد الحوادث المرتبطة بسوء استعمال السلاح، مما يطرح تساؤلات جدية حول مدى تأطير هذه الممارسة وضبطها قانونيًا وأخلاقيًا. فالقنص، الذي كان يُنظر إليه تاريخيًا كرياضة تراثية ومجال يحترم فيه الإنسان التوازن البيئي، أصبح في الكثير من الأحيان مصدر تهديد للأرواح وللتنوع البيولوجي، نتيجة غياب التكوين، وانعدام الوعي بالقوانين المنظمة، وضعف الرقابة على من يمارسونه.المرجع القانوني الأساسي الذي يُفترض أن يُنظم عملية القنص بالمغرب هو الظهير الشريف الصادر بتاريخ 15 يوليوز 1923، والذي ينص بوضوح في أحد مواده على ضرورة اجتياز القناص امتحانًا قبل منحه رخصة القنص، وذلك ضمانًا لتوفره على معارف قانونية وتقنية وأخلاقية تخول له حمل السلاح واستعماله بطريقة مسؤولة. لكن في الواقع، فإن هذا النص، رغم أهميته التاريخية والتشريعية، لا يتم تفعيله بالشكل المطلوب، حيث تمنح الرخص غالبًا بمجرد أداء الرسوم السنوية والانخراط في جمعية قنص، دون أي شرط معرفي أو اختبار تقني. هذا التهاون في التطبيق ساهم بشكل مباشر في ارتفاع عدد القناصة الذين يجهلون القوانين، ولا يمتلكون أي تكوين حول وسائل السلامة أو طبيعة الطرائد، ما جعل عددًا منهم يتحول إلى مصدر خطر فعلي داخل المجال الغابوي أو القروي.الجمعيات المحلية للقنص، والتي يفترض أن تلعب دورًا محوريًا في تأطير أعضائها وتوعيتهم، أصبحت في أغلب الحالات مؤسسات شكلية تكتفي بجمع انخراطات سنوية دون تقديم أي برنامج تكويني أو عقد جموع عامة شفافة، بل إن بعضها لا يحترم حتى الحد الأدنى من الشفافية القانونية، وهو ما يزيد من ضعف الثقة بين القناصة والإطار الجمعوي. وتغيب عن هذه الجمعيات أي مبادرة للتوعية أو التحسيس، بل تُسجل عليها حالات تقاعس واضح عن إبلاغ أعضائها بالقوانين الجديدة أو المستجدات التنظيمية التي تصدرها الجهات الوصية، مما يخلق فراغًا في التواصل والإرشاد.أما الجامعة الملكية المغربية للقنص، وهي المؤسسة الوطنية المكلفة بالسهر على تنظيم وتطوير هذا القطاع، فهي الأخرى لا تقوم بدورها كما ينبغي. فعدد الدورات التكوينية التي تنظمها يبقى محدودًا جدًا، كما أن حضورها في مراقبة أداء الجمعيات أو الدفاع عن مصالح القناصة ضعيف إلى منعدم. لا تسهر الجامعة على تفعيل الجانب التكويني المنصوص عليه في الظهير الشريف، ولا تسعى إلى فرض شروط تأهيل حقيقية على من يطلبون رخصة القنص لأول مرة. كما أن دورها في الدفاع عن القناصة، خصوصًا في ملف ارتفاع أسعار الخرطوش أو توفير التأمينات المناسبة، يكاد يكون غائبًا. هذا الضعف في التمثيلية يترك القناص وحيدًا أمام ارتفاع التكاليف، دون دعم مادي أو قانوني، مما يخلق شعورًا عامًا بالتخلي والإهمال.كل هذه الاختلالات مجتمعة ساهمت في خلق واقع غير منضبط لممارسة القنص، واقع تحكمه الفوضى في بعض المناطق، وتتكرر فيه الحوادث، وتُسجَّل فيه اعتداءات على الطرائد المحمية، واستعمال وسائل قنص ممنوعة، وانتهاكات واضحة لحرمة البيئة والسكان. ومما يزيد الوضع سوءًا أن أغلب القناصة الجدد لا يخضعون لأي تأطير، ويمارسون القنص كأنهم في فضاء بلا قانون أو توجيه. وهذا ما يحوّل القنص من نشاط ترفيهي راقٍ إلى تهديد محتمل للأمن البيئي والاجتماعي.إصلاح هذا القطاع يبدأ بتفعيل نصوص قانونية موجودة منذ أكثر من قرن، وعلى رأسها شرط اجتياز الامتحان قبل الحصول على الرخصة، وفق ما ينص عليه ظهير 1923. وهذا الامتحان لا يجب أن يكون شكليًا أو إداريًا، بل ينبغي أن يكون متكاملًا، يجمع بين تكوين نظري في القوانين البيئية وسلوكيات القنص المسؤول، وتكوين عملي في استعمال السلاح والتعامل مع المواقف الخطرة. كما أن الجمعيات مطالبة بتحمل مسؤوليتها في تأطير أعضائها، تحت مراقبة فعلية من طرف الجامعة ومصالح المياه والغابات. ومن الضروري أيضًا أن تُعيد الجامعة هيكلة أدوارها، وتتحول من جهاز إداري إلى مؤسسة مرافعة وتكوين ومواكبة حقيقية. ولا يمكن الحديث عن تنظيم قطاع القنص دون التفكير في الجانب الاجتماعي والاقتصادي للقناص، حيث يجب دراسة إمكانية دعم أسعار الخرطوش، وتوفير التأمين، وتحسين ظروف ممارسة هذه الهواية بما يعيد لها قيمتها الثقافية والبيئية.إن القنص ليس مجرد هواية أو وسيلة للترفيه، بل هو مسؤولية كبيرة على عاتق كل من يمارسه، تجاه نفسه، وتجاه المجتمع، وتجاه الطبيعة. وتفعيل القوانين القائمة، وعلى رأسها مقتضيات ظهير 1923، ليس مجرد إجراء قانوني، بل خطوة أساسية نحو تنظيم ممارسة القنص، وضمان سلامة الجميع، وحماية رصيدنا البيئي، وإعادة الاعتبار لمفهوم القنص المسؤول.الجديدة بتاريخ 03 غشت 2025.بقلم : أيوب محفوظ
-
عبد الإله نادني يكتب.. صيفٌ باهت على شواطئ الجديدة
المدينة التي اعتادت أن تستقبل الصيف بزحامٍ يملأ شوارعها وصخب يكسر هدوء أحيائها، تجلس هذا العام في هدوء سياحي يكاد يكون مُريبا. شواطئ الجديدة، تلك التي طالما كانت ملاذًا للهاربين من لهيب المدن الداخلية، تنتظر زوّارًا تأخّروا في القدوم. توافدٌ "خافت" – كما يصفه المراقبون – لا يُبشر بالانتعاشة الاقتصادية التي طال انتظارها، ولا بالطفرة المالية التي يحلم بها التاجر والساكن على حد سواء. منتصف شهر يوليوز يجيء، وجيوب أصحاب "الدور المعدة للكراء" مازالت فارغة، وما فنادق المدينة باحسن حال فهي تتذكّر اياما مضت كان فيها "ملء البيوت" هو القاعدة لا الاستثناء. حتى الازدحام الصيفي المألوف، ذلك المؤشر الحيوي، غدا ذكرى يرويها المتتبع العادي باندهاش.وراء هذا الهدوء الحذر ، قصصٌ من الإحباط تتشابك. زوّارٌ يجدون أنفسهم في دوّامة لا تنتهي من الطرقات المعطوبة، بين إصلاحٍ هنا وحفرٍ هناك، تُنهكهم وتُتلف سياراتهم رويدًا رويدًا، فتُسلب منهم راحة الرحلة منذ البداية. آخرون تُصدّهم صورة المدينة حين تطل عليهم حاويات أزبال تفوح منها روائح تزكم الأنوف خصوصا مع ارتفاع الحرارة هذا إن لم تكن غائبة بالمرة ، او يحاصرهم حراس سيارات بكلام ساقط او ……فيندفع الزائر المُحتمل هاربا موليا وجهته قبلة اخرى قبل أن تطأ قدماه رمال الشاطيء، خصوصا مع الغلاء المبالغ فيه، هذا العدو القاسي الذي يحول دون أحلام الطبقة الوسطى التي تُشكل عماد السياحة الداخلية؛ فقضاء عطلةٍ بحرية، رغم شدة الحرارة، اصبح "رفاهية" و"ضربًا من الخيال" أمام جيوبٍ أنهكها ارتفاع كلفة العيش. نتيجة هذا كله: اقتصاد مدينةٍ يتلقى ضربة موجعة، وقدرة شرائية تتراجع، وسائحٌ لم تعد الجديدة قادرةً على تقديم البديل المتطور الذي يبحث عنه في "متنفسه" الصيفي.بالمقابل، تطلّ علينا مدن اخرى كمدينة أكادير من الجنوب لتقدم درسًا بليغًا. رغم اشتراكها في تحديات الغلاء وتدني القدرة الشرائية، إلا أنها تشهد هذا الصيف إقبالًا سياحيًا "منقطع النظير". السر؟ سياسة سياحية واضحة المعالم، تقوم على ركائز متينة: تنظيم قطاع الكراء بأسعار معقولة، ومراقبة صارمة لأسعار الخدمات وجودتها في المقاهي ومرافق الاستقبال، واستثمارٌ في بنية تحتية لائقة، وتنويعٌ للمنتوج السياحي الذي يتجاوز مجرد البحر ليشمل الفنادق والمنتزهات وغيرها. لقد فهمت أكادير أن السائح اليوم يطلب أكثر من مجرد شاطئ.أما في الجديدة، فالكلام عن "سياسة سياحية" أو "برامج" طموحة، سواءً أكانت قصيرة أم بعيدة المدى، يبدو كحديثٍ من ضرب الخيال. الاعتماد على البحر والشواطئ الطبيعية كرافعة وحيدة للسياحة قد تجاوزه الزمن ولم يعد كافيًا في سباق الوجهات السياحية الأخرى. البحر الجميل لا يعوّض عن طرقٍ مهشمة، ولا ينظّف شوارعًا ملوثة، ولا يخفف من غلاءٍ خانق، ولا يخلق تجربةً متكاملة. النهج الحالي يحتاج إلى مراجعة عاجلة. على المجلس الجماعي والفاعلين تبني "مقاربات أخرى أكثر نجاعة"، مستلهمين العبرة من نجاحاتٍ قريبة. الجديدة مدينةٌ تستحق أكثر من أن تظلّ تنتظر زوّارًا قد لا يأتون، بينما بحرها الجميل يهمس بأمواجه: "أنا هنا، لكنّي لستُ وحدي كافيا". حان وقت الفعل قبل أن يتحول الصمت الصيفي لهذا العام إلى واقع دائم.
-
السلوك الاحتجاجي لدى ساكنة أيث بوكماس بين قيم الحداثة وقيم التقليد
ظهرت مجموعة من الأطاريح العلمية التي حاولت فهم السلوك الاحتجاجي لدى المواطنين، بين الفعل العقلاني الفردي والفعل الجمعي الجماهيري. حيث يختلف السلوك الاحتجاجي للعامل أو الموظف، أو المواطن غير المنخرط في تنظيم؛ بين الوعي الطبقي ووجود المصلحة، وبين تأثير الروابط الاجتماعية وأشكال التضامن التقليدي. يحدد مستواه وتأثيره ونضجه حجم الحرية مقابل أشكل القمع والسلطوية، وحجم التأطير النقابي والحزبي، وتأثير القبيلة والجماعة على الأفراد. تربط أطروحة الفعل الجمعي بالطريقة التي نظر لها غوسطاف لوبن، السلوك الاحتجاجي بروح الجمهور؛ كيف ما كانت نوعية العمال وكيف ما كانت ثقافتهم ونمط حياتهم ودرجاتهم في العمل، وكيفما كانت اهتماماتهم وذكاءاتهم، فإن مجرد تحويلهم إلى جمهور يصبحون كتلة واحدة، يتحركون بطريقة مختلفة عن الطريقة التي كان يتحرك بها كل فرد منهم منعزل عن الآخرين، أي يوجد نوع من العدوى التي تنتشر بين الجمهور تجعل الجميع ينصهرون في قالب واحد، يتعاطفون بينهم ويتصرفون بطريقة جماعية.لكن هذه الأطروحة لا تجيب عن الطريقة التي يتم بها تأسيس الجماهير، قد يكون بتأثير الزعيم المفوه وبالخطاب السياسي المثالي الذي يحول الناس العاديين المختلفين إلى جمهور منسجم. حيث يؤثر القائد في البداية على الجماهير، لكن بعد ذلك تقوم هي بالتأثير فيه وتوجيهه بحسب عقلها الجمعي. كما أن الأطروحة تتحدث عن البدايات الأولى للحركات الاحتجاجية قبل أن تتحول إلى مشاريع سياسية وتنظيمات مثقلة بتحديات الواقع.أما أطروحة الفعل العقلاني الفردي لدى ماكس فيبر والتي طورها ريمون بودون، فهي تربط الاحتجاج بحجم وعي المواطن بمصلحته الخاصة، فالفائدة والمصلحة هو من يحدد سلوك الأفراد. وفي الفعل الاحتجاجي دائماً ما يوجد مصلحة مرتقبة يصبو الموظف والعامل الحصول عليها. لكن هذا التفسير للسلوك الاحتجاجي لا يراعي الظروف السياسية والاجتماعية وتأطير التنظيم وتأثير الرأي العمومي.من الأطروحات المهمة التي أيضاً حاولت فهم السلوك الاحتجاجي ما جاءت به مدرسة السوسيولوجيا شيكاغو. حيث الأهداف المشتركة للمحتجين مدعاة للاحتجاج، فالعامل والمواطن هو شخص واع ومسؤول عن أفعاله ويقدر حجم الخسائل والأرباح، وطبيعة موازين القوى التي تحدد مستوى التفاوض. وبالتالي الذي يجمع الناس حول قضايا مشتركة هي المصلحة الخاصة. هي أطروحة تختلف عن سيكولوجيا الجماهير بكون الجماهير عاقلة تستطيع أن تحقق مطالبها بدون تأثيرات سيكولوجية.إلا أن كارل ماركس يرى أن قيام الثورة ونجاحها يتحدد بحجم الحرمان وحجم الانتظارات المحفزة للناس وفق ترقبات اقتصادية في ظل غياب التنمية وبوجود القمع والاستبداد. حيث إن الفارق بين تطلعات الفاعلين الاجتماعيين وواقعهم المعيش هو الذي يؤدي لظهور حركات احتجاجية جماهيرية. لكن أهم شيء يدعو للاحتجاج حسب كارل ماركس هو الشعور بالحرمان، بمعنى أن الموَلد للاحتجاج ليس الحرمان نفسه بل الشعور به، وهو شعور لا يمكن استشعاره إلا بحجم الوعي الطبقي والمستوى التعليمي وحجم التأطير السياسي. لهذا تعد الطبقة المتوسطة أكثر الطبقات احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية، من جهة لأنها قريبة من الطبقة الفقيرة وتطل على معاناتها، ومن جهة ثانية هي تطل على الطبقة البرجوازية وترى حجم المحفزات ومستوى الرفاهية، ثم هي أكثر وعياً بأدوات الصراع ونمط المفاوضات.لكن متى تؤدي الاحتجاجات في البادية المغربية إلى تحقيق مكاسب حقيقية؟ تحدث خالد تيكوكين رئيس الجماعة الترابية وأحد قيادات المسيرة الاحتجاجية لآيث بوكماس، التي انطلقت صباح 9 يوليوز 2025 واستمرت خمسة أيام، قطع خلالها المحتجون ما يقارب 80 كلم مشياً على الأقدام إلى حين الوصول إلى عمالة أزيلال؛ تحدث عن وجود احتجاجات يومية تقوم بها الجماعات المجاورة وأغلب الدواوير وبأشكال مختلفة، وأن عمالة أزيلال تشهد يومياً وقفات احتجاجية ومسيرات، لكن أن يخرج ثلاث آلاف مواطن من 28 دوار ويقطعون الوديان والجبال سيراً على الأقدام وبشكل منظم، فإن ذلك سيكون له تداعيات ونتائج مختلفة على الساحة المحلية والوطنية. يمثل خالد تيكوكين صفة المناضل الذي يتزعم المحتجين ويضحي أكثر من الآخرين، دخل غمار المواجهة مع كل أنواع السلطوية في المنطقة، كما يدخل في مواجهة مع حُماة الانتخابات الذين يحرصون أشد الحرص على عدم إثارة المطالب والأسئلة الكبرى حول التنمية والمواطنة السياسية، يحصُرون الانتخابات في موائد العشاء ومبالغ مالية بسيطة، ويتعاملون مع المناطق الجبلية خزانات انتخابية كونها تعيد انتاج "الفلاح المدافع عن العرش".تعد مسيرة بوكماس مشجعة على الاحتجاج وداعية لمزيد من النضال، حيث خرجت يوم الاثنين 15 يوليوز 2025 ساكنة دواوير تكين، توفنرار ولجماعة أكوديد نلخير بإقليم أزيلال، مسيرة احتجاجية أخرى مشيًا على الأقدام نحو مقر العمالة، للمطالبة بفك العزلة التي تعيشها المنطقة منذ سنوات، كما خرجت مسيرات كثيرة تطالب بالكرامة والعدالة المجالية.في الفعل السياسي الحداثي وفي ظل الممارسة السلمية فإن التضحية ليست كبيرة، وأنه غير مطلوب وجود الرجل الخارق الذي يحقق مطالب الناس بطريقة سحرية، حيث المطالب بسيطة تتعلق ببناء المدرسة والمستشفى والطريق، لهذا حجم الموارد المعنوية التي سيحظى بها القائد لا تتجاوز أصوات الناخبين المشروعة في ظل الديمقراطية المحلية. لإن المناضل عليه أن يستفيد من شيء ما قد لا يكون مادياً، كأن يكون هو الإمام والقائد والزعيم في المستقبل، فيحظى بالشهرة والمكانة، كما يمكن له الاستفادة من الجماهير وتحويلهم لمشروع سياسي. يعاب على خالد أنه يقوم بحملة انتخابية سابقة لأوانها ويسعى لكسب الحظوة والحصول على أصوات انتخابية. لما لا والديمقراطية تفرض التنافس بين الأحزاب والنخب في خدمة مصالح المواطنين، ومن يستطيع الدفاع أكثر عن حقوقهم فإنه يحظى بالمكانة ويكتسب ثقة الشعب. إن خالد يسعى بطريقة ديمقراطية لكسب ثقة المواطنين عكس الأحزاب الإدارية التي تكرس الفقر والهشاشة وتلتقي مع أهداف النظام المخزني في الإبقاء على الجهل والأمية والفقر من أجل شراء ذمم الناخبين إثر كل استحقاقات سياسوية، لأن التنمية تحقق الحرية والكرامة ضداً على كل أنواع الفساد والاستبداد.يمثل خالد ذلك القائد الحداثي الذي تدخل في وقت تشكل الجمهور فأعاد بناء الجمهور وصياغة مطالبه بطريقة جديدة. حيث سيكولوجيا الجهور بدأت عند الخروج من الدواوير وبعد تشكل الاحتقان والشعور بالظلم، لكن لا يكفي أن يقود الجمهور نفسه بنفسه، بل لابد له من قائد يمثل مطالبه أحسن تمثيل ويحسن إدارة التنظيم، لهذا فخالد جزء من هذا الجمهور ينتمي إليه ويعيش على معاناته. حيث يمكن لخالد بما يمتلك من وعي ومن مستوى مادي أن ينتقل للعيش خارج بوكماس، في أحسن المدن التي تعرف التنمية مثل العاصمتين سواء السياسية أو الاقتصادية، لكنه فضل البقاء وسط المواطنين والتواصل اليومي معهم. لهذا يعد قائداً يهتم بمشاكل الساكنة، وليس ذلك البرلماني أو رئيس الجماعة التي يعيش في المكاتب المكيفة بعيداً عن معاناة المواطنين. من مواصفات المسيرة الاحتجاجية التي نظمها ساكنة آيث بوكماس في اتجاه إزيلال وجود روح التضامن الاجتماعي داخل كل دوار على حدىً، وبين الدواوير بعضها البعض، حيث الرابط القبلي ساعد على استمرار التضامن واللحمة وساهم في تعزيز الشعور بالظلم وجعله مدعاة للاحتجاج المتواصل. فأحيانا لا يشعر الفرد بالقهر الذي يعيشه ولكن قد يستفزه معاناة الآخرين أكثر من معانته هو، لهذا يسعى ما أمكن لدفع الظلم على جيرانه وعائلته. كما يوجد نوع من الوعي التنظيمي الذي أصبح ينمو عبر كل احتجاج، حيث اختار كل دوار لجنة تنوب عنه ومجلس جماعي يضم ممثلين عن كل دوار. بذلك يمكن القول أنه ليس دائما ما يكون الانتقال من تنظيم القبيلة أو الجماعة إلى تنظيم الجمعية، بل يمكن الجمع بين التنظيمات الجديدة وأنواع الروابط التقليدية الداعمة للتضامن. أيضا مما يدل على أن القيم التقليدية يمكن أن تكون مولدة للفعل السياسي العمومي هو ارتباط النخب بقريتهم، فرغم وجود عوامل كثيرة طاردة للنخب ومشجعة على الهجرة فإن مناسبات كثيرة منها الأعياد والعطلة الصفية تجعل هؤلاء النخب يعودون للقرية فيُحيون النقاش من جديد حول تردي الأوضاع وازداد التهميش. هؤلاء النخب الذين فضلوا العيش في مدن حضرية متقدمة لازالت تربطهم أواصل القرابة وروابط القبيلة والعائلة مما يجعلهم مهتمين بأوضاع المنطقة أكثر من غيرهم، ويجعلهم مساهمين في الاحتجاج ومنظمين له. يقول بعض العلماء بوجود علاقة سببية بين الثقافة السياسية والنظام السياسي، وأن كل ثقافة تنتج النظم السياسي الذي يمثلها، كما حسب البعض أن الثقافة السياسية للشعوب العربية هي ثقافة الولاء والخضوع، الذي أنتج أنظمة سلطوية، يقول بذلك هشام شرابي من خلال أطروحته حول النظام الأبوي ويقول بذلك عبد الله حمودي من خلال خطاطته الشيخ والمريد ويقول بذلك الجابري من خلال تحليل العقل العربي ويقول بذلك حنفي من خلال البحث في الثقافة الفارسية. إلا أنه يوجد قيم تقليدية في البادية المغربية مرتبطة بقيم عزة النفس والكبرياء وعدم القبول بالطاعة غير المشروطة، قد لا تكون قيماً منتجة للنظام الديمقراطي لأنها لا تتضمن قيم الاختلاف والتعددية والوعي الطبقي؛ إلا أنها تنتج سلوكاً احتجاجياً مهماً قد يحقق مكاسباً حقيقية.
-
رقصة الجرة الأخيرة
فوجئتُ ذات مساءٍ من سنين خلت، برجلٍ في أواسط العمر، بثيابٍ بسيطةٍ توحي بتواضعٍ صارخ، يقف عند حافة "المحرك" بمولاي عبدالله أمغار. كانت السربة قد أطلقت للتو بارودها في طلقةٍ مدوِّيةٍ، كنبضة قلبٍ واحد هزت الساحة. وفجأة، كأنما انفجر بركانٌ كامنٌ في صدره، ارتفع الرجلُ يهتف بأعلى صوته، تهليلاً يقطع صمت الدهشة. ثم تقدم نحو "الگلة" المركونة إلى جانب رفاقها، ليُفرغ ماءها على رأسه في حركةٍ تشي بالتطهير أو الاحتفاء، قبل أن يحطمها أشلاءً على الأرض. التفتُّ متسائلا، فلقيتُ ابتسامةً عريضةً على شفتي متفرجٍ قريب: "ذاك هو با التامي ( بحذف الهاء) يحضر كل مواسم التبوريدة، وكلما أعجبته رمية بارود 'قرصة' من السربة، احتفل على طريقته".هكذا، من رحم عفويةٍ مفاجئةٍ، ولد طقسٌ فرجويٌّ لم تعهده ساحات الفروسية العريقة. اخترعه رجلٌ عادي، لا بسلطةٍ ولا بتزلف ، بل بحدسٍ صادقٍ وحبٍ غامرٍ لهذا التراث النابض. تحول كسر الجرة، ذلك الفعل الغامض في بدايته، إلى لغةٍ كونيةٍ صامتةٍ. صارت الجرة المرفوعة ثم المحطمة إيذاناً بانبلاج فرحةٍ جماعيةٍ: إذا فعل با التهامي فعله، علم الفرسان أنهم بلغوا شأواً من الإتقان أشبع توق الجمهور. وإذا امتنع، صامتاً، كان صمته حكماً قاطعاً، تقييماً صارخاً لطلقةٍ قاصرةٍ دون حاجةٍ لصفارةٍ أو صراخ. لم يكن حضوره عابراً؛ بل صار حكماً شعبياً، ووسام شرفٍ غير منظورٍ يُمنح في الهواء الطلق. صار الفرسان يتفاءلون بظلّه عند الحافة، ويتشوقون بلهفةٍ إلى لحظة تحطيم جرته، بل صار تكسيرها في دورهم شرفاً يتنافسون عليه، ومفخرةً يتهادونها: "با التامي كسر جرةً في دورنا!"خلق با التهامي، من خياله الخصب وحده، فرجةً بلا سلفٍ في فن التبوريدة العتيد. فإذا بها، كالوردة التي تنبت في خلاء، تحتل فجأة قلب المشهد ويحتفي بها الجمهور بكل جوارحه. صار المتفرجون يلتفتون إليه قبل التفاتهم للسربة، ينتظرون حكمه بقلوبٍ معلقةٍ. وصارت الساحة ناقصةً، مبتورة الروح، إذا غاب. تساؤلاتٌ تملأ الأجواء: "أين با التامي اليوم؟" وفرسانٌ يشعرون بفراغٍ لا يُسد، كأن نوراً قد انطفأ. كانت جرته المكسورة أشبه بزفرة رضا جماعيةٍ تتحرر من الصدور، إيماءة تفاهمٍ صامتةٍ تشد الفارس إلى المتفرجين بحبلٍ غير مرئي. كانت العلامة الفارقة، أن البارود لم يذهب سدىً، وأن الفرجة قد ارتقت إلى ذروة بهائها.وفي أيامه الأخيرة، حين نال منه الداء، ارتفعت الأمنيات : "ليعُد با التهامي". لكن القدر، القاسف بلا هوادة، كان بالمرصاد. جاء نعيه ليخيّم بحزنٍ ثقيلٍ على قلوب محبيه. فبموته، لم يغادرنا رجلٌ فحسب ؛ بل غادرنا طقسٌ بأكمله، ذهبت روحٌ من أرواح الساحة. مكانه عند حافة "المحرك" سيبقى فارغا ، والجِرار ستبقى سليمةً، بلا يدٍ ترفعها ثم تحطمها في انفجار من البهجة وكأن ساحات التبوريدة نفسها تهمس بحسرةٍ: "لن يعود الطقس كما كان". سيفتقده الجمهور في صمت حزين، و سيفتقد الفرسان حكمه الصادق. وسيظل السؤال يتردد، ملحّاً، عند كل طلقة بارود مدوية: "هل كان با التامي سيكسر الجرة ؟" لقد رحل الجسد الفاني، لكن "طقسه" – تلك الرقصة البسيطة العميقة – ستبقى حية، منقوشة في ذاكرة كل عين رأت الجرة تُرفع ثم تُحطم، شاهدةً على كمال السربة.رحل با التهامي، تاركاً في ثنايا التراب درساً خالداً: أن شرارة الإبداع قد تشتعل في أقصى هامش الفرجة، لتحتلّ قلبها وتصير أسطورة. وأن الوفاء للتراث لا يسكن في الألقاب الفخمة أو الأصول العريقة، بل ينبض في قلبٍ يحب بصدق، وعينٍ ترى الجمال حيث لا يراه سواها. اليوم، ستدوي طلقات البارود في ساحات التبوريدة، ويعلو غبار الخيل، ستظلُّ جرته المكسورة يتردد صداها، حزيناً وعميقاً، في أذن كل من عرف قيمة الرجل وصوته وإطلالته:"إنا لله وإنا إليه راجعون.. رحل صاحب الجرة، وبقيت ساحات الفروسية تنتظر حكماً لن يأتي…"عبدالإله نادني.
-
عندما يصبح الصمت معاقب عليه
قد يبدو الصمت في الظاهر سلوكا غير مخالف للقانون، إلا أنه يشكل في بعض الحالات المعدودة جريمة تستوجب المساءلة، وذلك بحسب السياق القانوني الذي يحدث فيه. فعندما يشكل الامتناع عن القيام بواجب يفرضه القانون، تقصيرا غير مشروع يصبح لا محالة، فعلا يعاقب عليه القانون وتنبذه الشريعة. إن السلوك الجرمي لا يقتصر على الأفعال الإيجابية كارتكاب السرقة أو الاعتداء أو التزوير أو ما إلى ذلك، بل يشمل أيضا الأفعال السلبية كالإحجام عن أداء واجب قانوني أو الامتناع عن تقديم مساعدة لشخص في خطر. فالجريمة تُعرف قانونيا بأنها كل سلوك، سواء كان فعلا أو امتناعا يخالف ما يُوجبه القانون ويعاقب عليه بمقتضاه. على هذا الأساس، يصبح من الضروري أن يكون أي فرد في المجتمع على دراية - ولو بالحد الأدنى - بالقوانين التي تنظم حياته اليومية، فغياب المعرفة القانونية قد يؤدي حتما إلى ارتكاب أفعال مخالفة للضوابط القانونية يُجهل تَبعاتها، مما قد يعرض صاحبها للمساءلة. لذلك فإن التوعية من خلال برامج تعليمية وإعلامية توعوية منسقة، بإشراك فعّال للمجتمع المدني، تعتمد أسلوبا بسيطا خال من التعقيدات، قوامه التخاطب والتواصل بين مؤسسات الدولة والمواطن، موجه إلى كافة شرائح المجتمع، لتبديد أزمة الثقة بينهما، وتأسيس منظومة إيجابية ترسم خطاطة تفاعلية، تبرز بشكل شفاف ومتوازن الواجبات والحقوق، وتشكل ركيزة أساسية لبناء مجتمع يقوم على مبادئ المسؤولية والاحترام المتبادل. إن المعرفة القانونية لا تحمي الفرد فقط من الوقوع في خلاف مع القانون، بل تضمن أيضا سلوكا مسؤولا وتعايشا سليما داخل الإطار القانوني الذي ينظم الحقوق والواجبات بين الأفراد. ورغم أن الفعل الإيجابي هو الصورة النمطية لارتكاب الجريمة، إلا أن المشرع لم يغفل عن الفعل السلبي، إذ خصص له مجموعة من الفصول القانونية، تؤكد على نبد التواطؤ بالصمت، وتدين الإحجام عن الفعل حين يقتضي الواجب القانوني أو الأخلاقي التدخل، وتجرمه وتحدد العقوبات المترتبة عليه، وهذه صور منها: "عدم تقديم المساعدة لشخص في خطر" الفصل 431 من القانون الجنائي. من امتنع عمدًا عن مساعدة شخص في خطر رغم قدرته على ذلك دون تعريض نفسه أو غيره للخطر، يعاقب. في حين تُضاعف العقوبة إذا كانت الضحية قريبًا للجاني، أو تحت رعايته، أو قاصرًا، أو من ذوي الإعاقة، أو تعاني ضعفًا عقليًا."عدم التدخل لمنع وقوع جريمة " الفصل 430 من القانون الجنائي. من كان قادراً على منع جناية أو جنحة تمس السلامة البدنية للأشخاص، دون أن يعرض نفسه أو غيره للخطر، وامتنع عمداً عن التدخل، يُعاقب. وتُطبق العقوبة حتى إن لم يترتب عن الامتناع أي ضرر فعلي."عدم التبليغ عن جريمة " الفصل 299 من القانون الجنائي. من لم يُبلغ عن جناية رغم علمه بها يُعاقب، إلا إذا كان من أقارب الجاني حتى الدرجة الرابعة، ويُستثنى من هذا الإعفاء إذا كان الضحية طفلاً تحت 18 سنة." صمت الموظف العمومي - التستر على الفساد أو الإهمال - " الفصل 248 من القانون الجنائي. إذا صمت موظف عمومي عن خروقات أو جرائم يعلم بوقوعها أثناء مزاولته لمهامه، فإن صمته يعد شكلا من أشكال التستر أو الإخلال بالواجب المهني." امتناع شاهد عن الشهادة " المادة 399 من المسطرة الجنائية، إذا تم استدعاء شخص للإدلاء بشهادته أمام القضاء وامتنع عن الكلام أو صمت، قد يعد هذا السلوك جريمة معاقب عليها. لأن الامتناع عن الشهادة بدون مبرر قانوني قد يؤدي إلى الحكم بالغرامة أو عقوبة سالبة للحرية، خاصة في القضايا الجنائية. التشريع الإسلامي، من جهته لم يكن في منأى عن هذا المفهوم، فقد أقر مند أزمنة خلت بأن الركون إلى الصمت تجاه الجريمة، يعد موقفا مرفوضا من الناحية الشرعية والأخلاقية، خاصة إذا كان يؤدي إلى تكريس الظلم أو ضياع الحقوق أو الاعانة على المنكر. فالتعاليم الدينية تحث المسلم على قول الحق ونصرة المظلوم والوقوف ضد الظلم والفساد، وقد وردت في هذا الباب نصوص شرعية كثيرة منها: " النهي عن كتمان الشهادة " قال الله تعالى: " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " سورة البقرة الآية 283. " الإعانة على الإثم بالصمت "، فالصمت قد يعد إعانة على الجريمة إذا كان الشخص يعلم بوقوعها وسكت عنها. قال الله تعالى: " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " سورة المائدة الاية:2." النصرة الواجبة للمظلوم "، فالمسلم مسؤول عن منع الظلم، حتى من قبل أقرب الناس إليه." وجوب إنكار المنكر"، للمسلم مسؤولية أخلاقية ودينية في مواجهة المنكر، وإن السكوت عنه يعد ضعفا في الايمان. هذا الاتساع في مفهوم الجريمة، يستدعي بالضرورة وعيا قانونيا، حتى في أبسط مستوياته مما يُمكن الفرد من التمييز بين ما هو مشروع وما هو محضور، ويمنحه القدرة على التصرف ضمن حدود القانون دون أن يعرض نفسه للمساءلة. وعليه فإن نشر الثقافة القانونية وتعميمها، عبر مختلف القنوات المعرفية سواء عبر التعليم أو الإعلام أو حملات التوعية، لتمكين الفرد من مبادئ الفهم القانوني الذي يعد من الركائز الأساسية لبناء دولة الحق والقانون وضمان احترام الحقوق وصيانة الحريات وترسيخ قيم المواطنة المسؤولة، خصوصا إذا ما استحضرنا القاعدة القانونية التي تعتبر من القواعد الآمرة التي تقول" لا يعذر أحد بجهله للقانون ".الدكتور. نورالدين العمادي باحث في الحوار الديني والثقافي في الحضارة الإسلامية
-
الجديدة.. تتنوع الأشكال والريع واحد
أعلنت سلطات الجديدة قبل أكثر من شهر عن اللائحة المعتمدة للشواطئ المفتوحة في وجه المصطافين صيف هذه السنة ، وهي الممتدة بين المهارزة الساحل شمالا إلى أولاد غانم جنوبا ، في ساحل يعد الأطول على مسافة 150 كيلومترا.وتضم اللائحة شواطئ سيدي بوالنعايم والحويرة وللاعايشة البحرية والحوزية وأرض البحر سندس، والكولف ومازغان والحوزية المركز والجديدة وسيدي بوزيد وسيدي عابد والغويرغات والحرشان وسيدي بلخير وسيدي موسى ومريزيقة وبوفار.وعندما تسنح الفرصة بزيارة كل هذه الشواطئ ، يظل القاسم المشترك بينها هو استعصاء مراقبتها على السلطات والجماعات الترابية ومصالح التجهيز والمياه والغابات ، بالنظر لضعف الوسائل اللوجيستيكية والموارد البشرية، المفروض تعبئتها، أساسا للتصدي لريع موسم الاصطياف.ففي شاطئ الجديدة شنت السلطات حملة لتحرير الملك البحري، لكن تستمر مجموعة من أشكال الريع، ضمنها كراء واقيات الشمس بثمن يتراوح بين 10 دراهم و15 درهما وكراس بلاستيكية بخمسة دراهم.كما أنه يستمر وجود حيوانات منها جمال وخيول، يسخرها أصحابها لجولات تذكارية على رمال الشاطئ، على الرغم من كون هذا النوع من الريع، يكرس نفسه منذ أكثر من عشرين سنة، ويدر على أصحابه عائدات هامة، تدفع الضرورة على الأقل في اتجاه تحصينه بالتأمين اللازم، استحضارا لواقعة مصرع شخص سقط من ظهر جمل قبل 10 سنوات.وبشاطئ سيدي بوزيد يقدم ريع البحر نفسه بصورة متمردة على كل الضوابط ، وأساسا في استحواذ البعض على مساحات عمومية وتحويلها إلى مواقف لركن السيارات والدراجات وغيرها ، بسومة منفوخ فيها، كانت موضوع احتجاجات من رواد المنتجع.ريع المواقف يسائل أكثر من جهة عن مستغليه على طول شاطئ الحوزية الممتد من سندس حتى حجرة بيبور، وأيضا عن المسوغات القانونية التي فرضت استخلاص إتاوات غير مقبولة تماما.وتزداد صورة ريع الشاطئ قتامة بسيدي عابد 33 كيلومترا جنوب الجديدة، حيث يتحول المقطع الطرقي وسط مركز الجماعة، والذي أنفق لتهيئته مبلغ كبير من مجمع الفوسفاط، إلى سوق عشوائي للخضر والملابس المستعملة وبيع الأسماك وغيرها ، في عرقلة واضحة للمرور.وبالمهارزة الساحل، ارتفعت أصوات قبل يومين منددة، بالفوضى التي يعرفها شاطئ الجماعة جراء انتشار الدراجات رباعية الدفع ” كواد “، معروضة للكراء دون احتياطات لازمة لصون سلامة المصطافين، في وقت يجني من كرائها أشخاص عائدات كبيرة، كان من المفروض أن تدفع الجماعة وكل الجماعات الشاطئية بالإقليم، إلى الاتفاق على كناش تحملات نموذجي، ينظم تحت إشراف قسم الجماعات المحلية، استغلال ما تتيحه الشواطئ من فرص أمام مستثمرين وخاصة منهم الشباب، لخلق فرص عمل موسمية، لكن وفق شروط تحافظ للجماعات على مداخيل مستحقة، وتؤمن مرتادي الشواطئ من العديد من المخاطر، التي تتنامى مع كل صيف وراءها مستفيدون من “ريع الشواطئ” الذي يفرض حلولا ميدانية قابلة للتطبيق، سيما وأن الريع السالف الذكر لم يعد مقتصرا على أفراد، بل هناك وحدات فندقية اقتطعت لنفسها، مجالات بحرية وحولتها إلى أمكنة خاصة للاستحمام والتمتع بمياه الأطلسي الزرقاء، وإلى أن يتحرك المسؤولون يظل ريع الشواطئ بإقليم الجديدة، صورة قاتمة تعرقل الجاذبية المنشودة من طرف المنتوج السياحي لدكالة المزاوج بين البحر والغابة، بل وتظل الكثير من عائداته خارج استخلاص الجماعات.
-
مؤسسة الشاهد قطعة مركزية في تحقيق العدالة الجنائية
كرس المشرع المغربي من خلال منظومته القانونية جملة من النصوص التي تهدف إلى إضفاء الحماية القانونية على الشاهد والمبلغ عن الجرائم إدراكا منه للدور المحوري الذي يضطلعان به في الكشف عن الجريمة ومساعدة العدالة الجنائية في أداء مهامها ولتفادي ما قد يتعرضان له من تهديدات أو ضغوط قد تثنيهما عن أداء واجبهما.هاته الحماية القانونية سطرت في الظهير الشريف رقم:1.11.164 الصادر بتاريخ:19 من ذي القعدة 1432 الموافق:17 أكتوبر 2011 بتنفيذ القانون رقم:37.10 وبتغيير وتتميم القانون 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية في شان حماية الضحايا والشهود والخبراء والمبلغين والذي يهدف تحديدا إلى تشجيع أفراد المجتمع على أداء دورهم في ترسيخ القيم الأخلاقية في الحياة من خلال التبليغ عن جرائم الفساد والادلاء بشهاداتهم بكل حرية وتجرد وضمان حمايتهم سواء كانوا ضحايا أم شهود أم خبراء أم مبلغين من كل التهديدات التي يمكن أن تدفعهم إلى العزوف عن القيام بهذا الواجب .لذلك فالحماية القانونية للشهود والمبلغين ستسهم في بناء الثقة والطمأنينة في المجتمع، كما ستشجع الافراد على المشاركة الفاعلة في مكافحة مختلف أشكال الجريمة ودعم السلطات العامة في أداء مهامها بهذا الشأن.إن التدابير الاحترازية المتخذة ترمي إلى حماية الشاهد حماية فعالة مثل: إخفاء الهوية وتوفير الحماية الجسدية وضمان السرية في الإجراءات، إضافة إلى إمكانية التبليغ عبر الخطوط الرسمية والمنصات الرقمية الوطنية من خلال:الاتصال بمصالح الشرطة عبر الرقم 19 (112 عبر الجوال).الاتصال بمراكز الدرك الملكي عبر الخط 177.الاتصال عبر الخط الأخضر للتبليغ عن الرشوة والابتزاز:05.37.71.88.88ـالاتصال عبر البوابة الوطنية للتبليغ عن الفساد: WWW.STOPCORRUPTION.MA الاتصال عبر المنصة الرقمية " إبلاغ " WWW.E.BLAGH.MA التي أطلقتها المديرية العامة للأمن الوطني المخصصة للتبليغ عن المحتويات غير المشروعة على الانترنيت.إذا كان المشرع قد أفرد مجموعة من الإجراءات الحمائية في حق الشاهد أو المبلغ عن الجرائم عبر نصوص قانونية ترمي إلى ضمان أمنه وسلامته وتشجيعه على أداء هذا الدور الإيجابي دون خوف أو تردد فإن التشريع، كذلك قد أولى هذا النوع من الأشخاص عناية خاصة فأقر مبدأ الحماية لهم مند قرون إيمانا بأهمية الشهادة والإبلاغ في تحقيق العدالة وردع الظلم والجريمة.فالإنسان وهو يؤدي الشهادة لإحقاق العدالة، إنما يحقق مقصدا من مقاصد الشريعة الإسلامية ألا وهي الحفاظ على الكليات الخمس التي تتلخص في حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل وحفظ المال، فالشهادة الصادقة تسهم في إظهار الحق وكشف الباطل مما يمنع الظلم الذي يتعارض مع تعاليم الإسلام كما أن التزام الشاهد بقول الحق يعد من أعظم القربات إلى الله.من هذا المنطلق اعتبر الإسلام الشهادة أمانة عظيمة بل قرنها أحيانا بمقام العبادة، وحذر من كتمانها، بل وصف من يكتمها بأنه آثم يقول جل علاه "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" (البقرة 283) وهو تحذير صريح من مغبة التستر عن قول الحقيقة لما لذلك من آثار وخيمة على الفرد والمجتمع. وبالرغم من الإجراءات المتخذة التي تهدف بالأساس إلى تعزيز انخراط المواطن في تحقيق الأمن والاستقرار إلا أن هذه المساعي كثيرا ما تصطدم بعقليات ما تزال متأثرة بثقافة النفور من السلطة وبعوائق ثقافية ونفسية متجذرة، نتيجة لعدم الاستيعاب الكامل للمفهوم الجديد للسلطة القائم على الشراكة والثقة المتبادلة بينها وبين المواطن، كما أن تلك التمثلات النمطية التي مازالت سائدة في المجتمع والنظرة السلبية لمؤسسات إنفاد القانون، تعيقان تحقيق التفاعل الإيجابي وتحدان من فاعلية السياسات الأمنية التشاركية.وإلى جانب ذلك تسهم الصور النمطية الراسخة في تكريس عزوف المواطنين عن أداء دور الشاهد أو المبلغ، حيث كثيرا ما يوصم من يقدم معلومات أو تعاونا مع السلطات بصفات قدحية مثل "خائن أو واشي" وهي أوصاف اجتماعية ذات حمولة سلبية تفضي إلى تشويه صورة المواطن وتحويله من شريك في تحقيق الأمن إلى هدف للنبذ الاجتماعي، مما يضعف مناخ الثقة ويحد من فعالية التعاون بين المجتمع و مؤسساته الأمنية. إذن فثقافة الإبلاغ والتبليغ عن الجرائم أو الشهادات التي تساهم في تحقيق العدالة، تعد من أرقى صور المواطنة، وتعتبر دليلا قطعيا على المساهمة في الإنتاج المشترك للأمن.ومن أجل أن يتمثل المواطن ثقافة التبليغ والشهادة وتحقيق الغاية الكبرى منها، لابد من تحقيق مجموعة من العوامل والشروط وتكامل أدوار مجموعة من الفاعلين من أبرزها وأهمها، التربية على القيم المدنية، والتوعية المجتمعية والاعلامية، والتبليغ السهل والآمن مع تعزبز الثقة في مؤسسات الدولة لتبديد الخوف الذي يؤدي إلى الصمت الجماعي، أضف إلى ذلك ضرورة الاعتراف الرمزي والايجابي للمبلغين الذين ساهموا في الكشف عن الجرائم ومنحهم رمزية المواطنة الفاعلة. فالمواطن يحتاج أن يعرف بأنه حلقة أساسية في المعادلة الأمنية وأن مشاركته في المنتوج الأمني لا تعرضه للخطر بل تمكنه من أداء دور إيجابي في مجتمعه، باعتباره مواطنا ملتزما بثوابت وطنه، مشاركا في تحقيق أمنه واستقراره وتنميته.الدكتور. نورالدين العمادي .. باحث في الحوار الديني والثقافي في الحضارة الإسلامية
-
رشيد وهابي يكتب.. ''العقلية التشريعية التقليدية وتحدي الذكاء الاصطناعي
كل يوم تطلع علينا الاخبار الجديدة التي لا تنتهي وتبهرك عن يوم الأمس بما اكتشفته من جديد في عوالم الذكاء الاصطناعي الساحرة، كل هذا جعلنا ندمن ونهتم بكل ما هو جديد في هذا العالم الذي أصبحنا نرى ونحس أن المهتمين بتفاصليه والجديد فيه، باتوا جوعى متلهفين راغبين في تناول هذا الطعام الجديد الذي لا تشبعه حتى الشراهة الأكلية التي توصل للتخمة، طعام فريد وجديد، تم تحضير كل محتوياته وتوابله بالذكاء الاصطناعي، بل حتى الصحن والفرن الذي طبخ فيه أو الطباخ الذي أعده وأدخله للفرن، كلها وكلهم يعتمدون في طهيه على هذه التقنية الرائعة والمخيفة في نفس الوقت.آخر ما قرأته عن هذا العالم الجديد، هو توجه دولة الامارات العربية المتحدة للاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج القوانين وهذا يعني أن هذا المارد الذي سيساعدها في إنتاج القوانين، لن ينسى أن يضع له موطأ قدم تُخبر عنه وعن عمله وجوانبه القانونية المعقدة التي يجب أن يحددها يرتب المسؤوليات عن كل خرق أو تجاوز لها أو عبث بها، وبقدر ما أعجبني الخبر وأثار في نفسي حب قراءة الخبر حتى آخر كلمة فيه، والاعجاب بهكذا تفكير وعمل، بنيانه يوجد في دولة في الشرق الأوسط، وأياديه الأخطبوطية المتعددة وعقله المتفتح المتلهف لقنص كل جديد وتدريب دماغها للانقضاض عليه والمتح من كنوزه للبدأ بالعمل به ، وتبحث عن كل جديد في عالم التقنية والذكاء الاصطناعي لتُعمله وتعمل به، لكي تُقدم خدمات لمواطنيها تكون في أحسن صورة وأسرع وقت وبأدق تفاصيله، وهو نفس القدر لكن من الأسف الذي جعلني أشعر بالأسى على بلادنا، التي أصبح الكثير من مواطنيها يفطرون ويتغذون ويتعشون بخدمات الذكاء الاصطناعي وبأخباره التي لا تنتهي، حتى أن باتوا بحب استطلاعهم وتطلعاتهم لاستعمال تقنياته وأنظمته الجديدة يصنفون في سلم العاملين بتقنياته من أوائل الدول المستعملين له، متجاوزين في ذلك أمم ودول كبيرة ومتقدمة، وهذا الزخم الشعبي المغربي بهذه الأدوات، مع الأسف الشديد يقابله إهمال وتهاون كبير أو لنخفف العبارة ونقول تباطئ كبير في مسايرة الدولة بقوانينها ومؤسساتها ومرافقها بنفس السرعة التي يسير بها شغف المغاربة لاستكشاف عوالم الذكاء الاصطناعي والعمل بأدواته.وحتى نضع عين الأصبع على موضوع مقالنا ولا ندعه يزيغ، سنحاول من خلال هذا المقال أن نتطرق لموضوع أغراني اهتمامي المتأخر بعالم الذكاء الاصطناعي أن أتكلم وأتطرق له وأثير انتباه المشرع الى أهمية التفكير فيه أثناء العمل على كل القوانين المقبلة، وهو: العقلية التشريعية وتحدي الذكاء الاصطناعي.ففي الوقت الذي نهضت دول كثيرة نهضة رجل واحد متوتر من أجل التشريع لقوانين تنظم حقل الذكاء الاصطناعي، وتنظم جميع جوانبه ، وتحين جميع قوانينها الموضوعية والاجرائية لكي تتكامل وتتعاون مع أدوات الذكاء الاصطناعي ولا تصبح في تقاطع وتضاد معه، بدون تفريط وبتحديد رادع وواضح محدد للمسؤوليات عن كل استعمال لهذه الآليات سواء كان المستعمل فردا أو إدارة أو شركة، أقف في هذه الجهة من بلدنا العزيز محتارا وغير مصدق، أن قوانين مغربية يتم تعديلها حاليا، لم تتم الإشارة فيها، ولو من باب التلميح الى مصطلح الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، أو حتى من باب الترصيص بالتنصيص عليه في باب خاص به ، وتحديد كيفية العمل به من طرف القاضي أو المحامي أو الموظف أو من طرف المتقاضي، وتوضيح حدود المسؤولية المدنية أو الجنائية لكل طرف استعمله بسوء نية أو تلاعب وعبث بمخرجاته لكي يكسب قضية تنظر أمام القضاء، أو اعتمد عليه في مقالته أو مذكراته دون الإشارة الى ذلك والتدليل على ذلك.فلنورد مثالا على ما طرحناه، ونرجع الخطى على مشروع قانون المسطرة المدنية الذي تمت المصادقة عليه من طرف مجلس النواب، وأصبح معروض حاليا على مجلس المستشارين، والذي سيرهن إجراءات التقاضي في المملكة المغربية لعقود قادمة، فالملاحظ أنه رغم أن تعديله جاء في وقت يستعر فيها حر الكلام عن الذكاء الاصطناعي وآفاقه التي ستساعد وتسرع وتدقق كل الأعمال التي توكل إليه ، و رغم أن آذان العالم أجمع صُمت بأخباره وفتوحاته اليومية، نجد أن الساهرين على تعديلات هذا القانون ،وكأنني بهم قد أقفل عليهم في كهف لا أنترنت ولا أخبار ذكاء اصطناعي لوث سمعهم، وانتقادنا الظريف هذا لمدبجي هذه التعديلات ، جاء بعد أن وجدنا بعد إطلالة سريعة على كل مواد هذا التعديل أن المشرع الذي يبغي تعديل قانون المسطرة المدنية، لم يتطرق في هذه التعديلات للذكاء الاصطناعي بتاتا.ولا نعرف سببا لهذا الإهمال أو التغييب، غير ما خلصنا إليه من خلال تتبعنا لمجريات التشريع ومعرفة بعض الذين عملوا على إنجازه وتحيينه، من كونهم لم يستطيعوا الانفكاك والاستقلال عن حبال الطريقة التقليدية والمحافظة في إنتاج التشريع في بلادنا، والتي أصبح يظهر أنها لا تواكب المستجدات ولا تعمل بعيون ومجاهر ذكية حلت في كل مكان محل التقليدية منها، إلا عندنا. ولا بد من الإشارة هاهنا، إلى أن العديد من الدول مثلا، بدأت تشير الى أدوات الذكاء الاصطناعي في قوانينها الجديدة، أو عملت على إرساء بعض جوانبها، ومازالت تجد وتجتهد لكي تقبط على لجام هذه الأدوات حتى لا تخرج عن طوعها وتصبح مضرة بالعباد ومصالح البلاد، ونذكر مثلا أن فرنسا سنت قانون وهو: ( La Loi de programmation 2018-2022 et de réforme pour la justice( . وهو قانون جاء من أجل إصلاح وبرمجة العدالة وفق رؤية عن الفترة من 2018-2022 وتم اعتماده سنة 2019، ويهدف إلى تحسين أداء نظام العدالة. وتبسيط الإجراءات باستخدام التكنولوجيا والرقمنة والذكاء الاصطناعي مشجعا على استخدام التكنولوجيا لتحسين العدالة. كما أن فرنسا نشرت قانون سمته قانون الجمهورية الرقمية، وهو قانون تم اعتماده سنة 2016، ويسمى أيضا باسم قانون لومير ( loi lomaire ) نسبة للوزيرة السابقة اوكسيل لومير التي اقترحته. الذي منع في المادة 33 منه التنبأ بأحكام القضاة بناء على تحليل ونشر بيانات القضاة، وقرن هذا المنع بالعقاب، حتى لا تصبح آليات الذكاء الاصطناعي تتنبأ بحكم قاضي قبل أن يحكم به.واعتبر أن هذه الأدوات التي تعتمد الذكاء الاصطناعي يمكنها أن تعمل كمساعد في البحث القانوني أو تنظيم الملفات، ولا يمكنها أن تحل محل السلطة التقديرية للقضاة أو المحامين أو تكون بديلا عنهم. ولا يمكن أن ننسى أن الدول الأوروبية، عملت سنة 2024 على إصدار قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي (EU AI Act) الذي بات يعتبر من أول الإطارات القانونية المهمة في العالم التي تنظم استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي (AI) داخل الاتحاد الأوروبي، وهو قانون يرمي من خلال بعض نصوصه إلى تنظيم حسن استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق آمنة، أخلاقية، وغير تمييزية، مع عدم تقييده للابتكار.ولكن هذا القانون في طياته حذر من التأثير الذي يمكن أن يحدثه الذكاء الاصطناعي على نظام العدالة، لذلك نجد أن بعض نصوصه صنفت الأنظمة المستخدمة في العدالة "كأنظمة عالية الخطورة" (High-risk AI systems). ومن أجل تسييج نظام العدالة حتى لا تعبث أنظمة الذكاء الاصطناعي به، فرض هذا القانون التزامات صارمة على الشفافية، وعدم التمييز، وقابلية التفسير، قبل استخدام أدوات AI في القضاء.لذلك فمن خلال هذا المقال ندق ناقوس الخطر، لنقول أن إخراج قانون للمسطرة المدنية في سنة 2025 دون أن يتكلم عن أدوات الذكاء الاصطناعي، وينص عليها ويشير إلى كيفية العمل بها ويحدد حدود هذا العمل ومسؤولية كل من يعمل بها من المخاطبين بنصوص المسطرة المدنية. خصوصا مع تواتر أخبار تفيد عمل بعض السادة القضاة والمحامين وموظفي المحاكم به، هو تقصير غير مقبول ستتبين سوءات توريته وحجبه عن نصوص هذا القانون، والأمل مازال معقودا، لكي يتدخل مجلس المستشارين وينص على نصوص تنظم استعمال هذه الأدوات كما فعلت وتفعل دول أخرى أزالت استعمال النظارات التقليدية في طريقة إنتاجها للتشريع، وعوضتها بنظارات ذكية تستشرف آفاق المستقبل، بعد أن علمت وتيقنت أن كل المؤشرات تؤكد أن الذكاء الاصطناعي سيكون اليوم وغدا هو سيد كل شيء. الأستاذ وهابي رشيد .. المحامي بهيئة الجديدة