أعمدة الرأي
  • ...
    هــنــيــئــــا لــــــك يـــا بــــــــلادي.. بقلم الأستاذ الدكتور الحاج الكوري

    بمناسبة الذكرى الخمسينية للمسيرة الخضراء المظفرة، وبعد اعتراف مجلس الأمن الدولي يوم الجمعة 31 أكتوبر 2025 بمغربية الصحراء، والخطاب السامي لجلالة الملك محمد السادس نصره الله الموجه إلى شعبه الوفي عقب صدور القرار الأممي المذكور، هذا القرار الذي أكد أن مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب منذ سنة 2007 هي الإطار الوحيد والأمثل والواقعي لحل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية.لقد عمت الفرحة قلوب المغاربة من طنجة إلى الكويرة، في لحظة تاريخية تفيض بالاعتزاز الوطني، وأحسست، بفرحة غير مسبوقة، فـ«حب الأوطان من الإيمان». وبالفعل فقد خرج المواطنون بعد الخطاب الملكي السامي إلى الشوارع والساحات العمومية في مختلف المدن، حاملين الرايات الوطنية للتعبير عن فرحتهم، وهم يرددون النشيد الوطني ونشيد المسيرة الخضراء، في مشهد جسد أسمى معاني الوحدة والوفاء للوطن وللعرش العلوي المجيد.إن الفضل في تحقيق هذا الانتصار الدبلوماسي العظيم يعود بالدرجة الأولى إلى جهود وتضحيات صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، لمدة تزيد عن ربع قرن من العمل الجاد والمتواصل، وذلك على كل المستويات سواء على الصعيد الدولي أو الجهوي، وسواء في المجال الدبلوماسي او في المجال الاقتصادي والتنموي، لتكريس سيادة المغرب الكاملة على أقاليمه الجنوبية.وبهذه المناسبة المجيدة، نتقدم بأسمى آيات التقدير والتهنئة إلى جلالة الملك على كل هذه التضحيات والانجازات، سائلين الله العلي القدير أن يحفظه، ويبارك في عمره، وأن يوفقه لمزيد من النصر والعطاء.كما نوجه تحية إجلال وإكبار إلى كل المؤسسات الوطنية التمثيلية والتنفيذية، وفي مقدمتها القوات المسلحة الملكية وقوات الأمن الوطني، لما قدمته من تضحيات جسام طيلة مدة 50 سنة، منذ سنة 1975 إلى اليوم، في سبيل حماية أمن الوطن واستقراره ووحدته الترابية، دون كلل ولا ملل.فـهنيئا لك يا بلادي بهذا النصر والإنجاز الدبلوماسي الكبير، وهنيئا لك بما تحقق من إنجازات تنموية رائدة وصلت الى جيل جديد وصاعد من برامج التنمية الترابية والمجالية المندمجة، التي تجسد الرؤية الملكية الحكيمة لمغرب متجدد، قوي، ومعتز بهويته ووحدته.إمضاء: الأستاذ الدكتور الحاج الكوري         جامعة محمد الخامس       كلية الحقوق اكدال الرباط

  • ...
    الاستاذ محمد معروف يكتب ✍️| 31 أكتوبر.. نهاية الاستفتاء في الخطاب الأممي

    يقدم هذا المقال تحليلا في لما يتعلق بالاستفتاء في تقرير مجلس الأمن رقم SC/16208 الصادر في 31 أكتوبر 2025 ، الذي يلخص ما جرى في الاجتماع، حيث تم تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة في الصحراء (المينورسو) لعام إضافي حتى 31 أكتوبر 2026. وكما هو الشأن في التقارير السابقة، يواصل الخطاب الأممي استخدام لغةٍ دقيقةٍ ومحسوبة، تحافظ على الحياد السياسي، لكنها تُنتج حيادًا لغويًا يعيد تعريف الصراع ويُعيد بناء الزمن السياسي حوله. وترد في تقرير الأمين العام المشار إليه، جملة تبدو تقنية في ظاهرها، لكنها تضمر معاني سياسية محددة، إذ يقول البيان:"بينما لم يُجرَ الاستفتاء قطّ، واصلت بعثة المينورسو أداء المهام الموكلة إليها من قبل مجلس الأمن."“While the referendum has never taken place, MINURSO has continued to perform the tasks entrusted to it by the Council.”هذه الجملة القصيرة تختزن تحوّلاً في الخطاب الأممي من الحديث عن "استفتاء مؤجَّل"، (not yet) إلى الاعتراف الضمني "باستفتاء منتهي الصلاحية". فالصيغة المستخدمة، "لم يُجرَ الاستفتاء قطّ" (Never)، لا تعبّر عن تأجيل، بل عن نفيٍ مطلق يغلق أفق المستقبل. ولو استُعملت عبارة "لم يُجرَ بعد"، لأوحَت بوجود أمل في التنفيذ اللاحق، غير أن "قطّ" تحسم المسألة لغويًا: فالحدث لم يقع ولن يُتوقّع وقوعه.- حيادٌ نحويّ ينتج حيادًا سياسيًايُلاحظ أن الجملة تخلو من أي فاعل مسؤول (agency) عن غياب الاستفتاء؛ فلا يُذكر المغرب، ولا جبهة البوليساريو، ولا الأمم المتحدة نفسها. هذا الغياب المقصود للفاعل يحوّل “اللاحدث” إلى واقعة بدون مسؤول، ويخلق انطباعًا بأن الجمود نتيجة تلقائية، ويبهم المسؤولية، إذ تعتّم اللغة الدبلوماسية الصراع السياسي. إنها لغة تُخفي التوتر خلف البنية النحوية، وتحوّل التعطّل إلى حالةٍ إدارية مستقرّة.- بين النفي والاستمرارية في الزمنيوازن النص بين ما لم يتحقق، وهو والاستفتاء، وما يستمر في التحقق، وهو عمل البعثة. فبعد النفي يأتي الفعل الإيجابي: " واصلت بعثة المينورسو أداء مهامها"؛ وبهذا، يتحول استمرار البعثة إلى إطار لغوي لتبرير غياب التغيير؛ إذ يغدو الأداء الإداري نفسه دليلاً على النجاح المؤسسي، حتى وإن غاب الهدف المؤسس.ومن المهم أيضًا الانتباه إلى البنية الزمنية في الجملة الإنجليزية الأصلية، فاستخدام الزمن الحاضر التام (present perfect) ، لا يصف حدثًا ماضيًا فقط، بل يمتدّ زمن النفي من الماضي حتى اللحظة الراهنة، أي إنّ غياب الاستفتاء ما يزال قائمًا ومستمراً. يمنح هذا الاختيار الزمني النفي طابعًا دائماً ومتواصلاً، ولا يشير إلى حدث انتهى؛ بل إلى استمرارية الغياب. وبذلك لا تُقدَّم الجملة بوصفها توثيقا لحقيقة تاريخية، بل كحالة زمنية مفتوحة، تجعل غياب الاستفتاء جزءًا من الحاضر السياسي. أما في الترجمة العربية (لم يُجرَ الاستفتاء قطّ)، فإن دلالة الاستمرارية الزمنية تضيع جزئيًا، لأن الفعل الماضي المنفي يوحي بانتهاء الحدث، لا باستمرارية غيابه. لذلك يحمل النص الإنجليزي بعدًا إضافيًا يكرّس فكرة أن الاستفتاء ليس غائبًا في الماضي فقط، بل ما زال غيابه قائمًا في الحاضر — أي إن الزمن نفسه أصبح أداة لترسيخ الجمود السياسي.- المينورسو: الاسم الذي تجاوز وظيفتهمن خلال هذه الصياغة، تبدو بعثة المينورسو بوصفها كيانٍا يتكيّف مع الزمن، أكثر مما يسعى لتغييره. فاسمها الكامل — بعثة الأمم المتحدة لتنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية — أصبح تسمية رمزية لوجودٍ إداري طويل الأمد، لا أداة لتحقيق هدف محدّد. لم يُنظَّم الاستفتاء، لكن البعثة تستمر، ويُجدّد تفويضها سنويًا، وتتحوّل مهامها وفق ما تراه قرارات مجلس الأمن مناسبًا.- الحياد اللغوي بوصفه إدارة للزمنفي هذا البيان، يتحدث مجلس الأمن عن "دعم خيار الحكم الذاتي المغربي باعتباره خطة واقعية وعملية"، دون أي إشارة إلى الاستفتاء بعبارة صريحة. واللغة هنا تحافظ على الإطار القانوني القديم، لكنها تفعّل مفردات جديدة مثل "الواقعية"، و"البراغماتية"، و"الاستقرار الإقليمي"، هذا التحوّل لا يُعبّر عن موقف سياسي مباشر، لكنه يشير إلى انتقال الخطاب الأممي من أفق الاستفتاء إلى أفق التسوية التدريجية، بحيث تُدار الأزمة بدل من حلّها. فمن خلال النفي المطلق " لم يُجرَ الاستفتاء قطّ"، وعبارات التمديد السنوي المتكرّرة في قرارات مجلس الأمن، يمكن رصد تشكّل ما يمكن تسميته "بزمن البعثة" — وهو زمن مفتوح لا يقيس التقدّم بالنتائج، بل بالاستمرارية ذاتها، فالخطاب لا يعلن لا فشلًا ولا نجاحًا، بل يرسّخ نظامًا لغويًا للجمود، يجعل البقاء شكلًا من أشكال الإنجاز.يبيّن تحليل هذه الجملة التي تكشف الصورة الذهنية التي تتبَنَّاها الأمم المتحدة عن الاستفتاء، أن استخدام النفي المطلق (NEVER)، وتجنّب تحديد الفاعل ليسا تفصيلين لغويين، بل آليتين لإدارة الصراع عبر اللغة. فبدلاً من إنهاء المهمة، تُعيد الأمم المتحدة صياغة وجودها من خلال الحياد اللغوي ذاته. يمكن قراءة استخدام النفي المطلق "لم يُجرَ الاستفتاء قط" في الخطاب الأممي، بوصفه تعبيرًا مضمرًا عن نهاية مرحلة، لا مجرد توصيفٍ زمني لحدثٍ غائب، فالكلمة لا تنفي وقوع الاستفتاء فحسب، بل تُعلن، بطريقة غير مباشرة، أن فكرة الاستفتاء نفسها أصبحت جزءًا من الماضي السياسي. إنها صياغة لغوية تُغلق الباب أمام احتمال وقوعه، وتؤطر الواقع ضمن منطقٍ جديدٍ أكثر واقعية وعملاً.من هذا المنظور، يمكن القول إن الاستفتاء تحوّل من وعدٍ مؤجَّل إلى حلمٍ منتهٍ، وأن الخطاب الأممي — من خلال هذا النفي — يُمهِّد لغويًا للتعامل مع الحل القائم على مشروع الحكم الذاتي، باعتباره الإطار العملي الوحيد الممكن ضمن السياق الدولي الحالي. فاللغة هنا لا تُعلن التغيير صراحة، لكنها تُعبِّر عنه بصمتٍ نحويٍّ دقيق: حين يُقال (has never taken place)، فإن المعنى الأعمق هو أن الطريق قد اتّجه نهائيًا نحو خيارٍ آخر، وأن ما كان يُنتظر بالأمس، صار اليوم من الماضي.ذ. محمد معروف، جامعة شعيب الدكالي

  • ...
    الخطاب الأممي بين التوصيف والتمثيل: المغرب باعتباره سلطة أمر واقع، والبوليساريو بوصفه لسانا لسكان الصحراء

    من خلال تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول الوضع في الصحراء (S/2025/612)، تظهر ملامح انحياز لغوي غير مباشر في الطريقة التي تُقدَّم بها الأطراف المتنازعة، حيث تكشف الاختيارات المعجمية عن بناءٍ سردي يرسّخ صورة معينة لكل طرف: فالمغرب قُدم سلطة "مديرة" للأرض، وجبهة البوليساريو كـ"ممثل" للشعب الصحراوي بأسره، بما يتجاوز إطارها القانوني كحركة "تمثل" عددا محددا من "اللاجئين"/ سكان المخيمات بتندوف، هذا إذا فرضنا جدلا أن الجبهة منتخبة بشكل ديمقراطي.- المغرب: فاعلٌ بلا صوت تمثيلييتحدث التقرير عن المغرب بلغة الدولة والمؤسسة: "قدمت المملكة المغربية تفاصيل عن مبادراتها التنموية غرب الجدار"... "أكد وزير الخارجية المغربي دعم الدول الكبرى لمقترح الحكم الذاتي"... وتُقدَّم أفعال المغرب بأفعال إجرائية محايدة: " قدمت – واصلت – استقبلت – أنجزت – استثمرت."لكن اللافت أن التقرير لا يربط هذه الأفعال بتمثيل السكان الصحراويين المقيمين تحت سيادته الفعلية، بل يُحيل عليهم بعبارات مبهمة مثل “سكان الجزء الغربي من الإقليم". هنا تُمارس إزاحة تمثيلية: فالمغرب يُعترف به كفاعل سياسي وإداري، لكنه لا يُقدَّم كصوتٍ للصحراويين أنفسهم، مما يخلق فراغاً سردياً بين الدولة والمجتمع.- البوليساريو: صوت الشعب في الخطاب الأمميفي المقابل، تُقدَّم جبهة البوليساريو في التقرير بصفتها الناطقة باسم "الشعب الصحراوي": "أكد الأمين العام لجبهة البوليساريو إصرار الشعب الصحراوي على التشبث بحقوقه وأرضه"..."رحبت البوليساريو بقرار المحكمة الأوروبية الذي أكد الوضع المنفصل للصحراء الغربية." تُستخدم هنا أفعال القول : أكد – أعلن – رحب – عبّر) لترسيخ صورة البوليساريو كممثلٍ سياسي ذي شرعية معنوية للشعب الصحراوي بأكمله، وليس لسكان المخيمات في تندوف فقط. وبذلك يتحول مصطلح "الشعب الصحراوي" إلى مرادف ضمني للبوليساريو في السردية الأممية، بينما يُحجب المغرب عن أي تمثيل رمزي موازٍ لسكان الأقاليم التي يديرها فعليا؛ غير أن هذا لا يُعدّ انحيازاً متعمداً من كاتب التقرير أو من الأمم المتحدة نفسها، بل هو نتيجة غياب التنبيه الدبلوماسي أو اللغوي من الجانب المغربي على ضرورة التمييز بين الصحراويين المقيمين في الأقاليم الجنوبية و"اللاجئين" في مخيمات تندوف. ففي ظل هذا الصمت، يستمر الخطاب الأممي في اعتماد صياغة تجعل التمثيل الشامل للشعب الصحراوي حكراً على البوليساريو، دون أن يجد هذا الافتراض ما يناقضه رسمياً في الخطاب المغربي.- انحياز لغوي مقنّعيبدو هذا التفاوت انعكاساً لما يسميه الباحثون في تحليل الخطاب بالتحيّز في التمثيل: representation bias))فمن خلال الحياد اللغوي الظاهري، يتم تثبيت توزيع غير متوازن للشرعية: ●المغرب: فاعل إداري وتنموي بلا صوت تمثيلي للسكان. ●البوليساريو : فاعل رمزي وتمثيلي يتحدث باسم "الشعب الصحراوي".وبينما تلتزم الأمم المتحدة رسمياً "بالحياد"، فإن هذا الحياد اللغوي ينتج تمثيلاً إيديولوجياً مزدوجاً: يشرعن الوجود المغربي كإدارة أمر واقع، ويكرّس البوليساريو كممثل معنوي لشعب الإقليم.وخلاصة القول، إن تقرير الأمم المتحدة لا ينتهك الحياد السياسي، لكنه يُعيد إنتاجه عبر الحياد اللغوي، أي إنه يبدو محايدًا سياسيًا، لكن اللغة التي يستخدمها سواء في السرد أم في الاقتباس، تكرّس هذا الحياد بشكل يُنتج تحيّزًا ضمنيًا أو تمثيلًا غير متوازن. فمن خلال الصياغة، لا يُذكر المغرب كممثلٍ للصحراويين في الأراضي التي يديرها، بينما تُمنح جبهة البوليساريو وضعاً تمثيلياً ضمنياً "لشعب الصحراء بأكمله". هذه الفجوة الخطابية ليست تفصيلاً لغوياً، بل تكشف عن دينامية رمزية تحافظ على الوضع القائم وتؤطر النقاش الدولي ضمن ثنائية : " المغرب كسلطة أمر واقع مقابل البوليساريو باعتباره صوت الشعب". ويظل السؤال المطروح: هل سيتمكن المغرب، في التقارير الأممية القادمة من كسر هذه الثنائية القائمة بين سلطة الأمر الواقع وصوت الشعب، واستعادة موقعه بوصفه فاعلا يمثل سكان الصحراء ضمن مشروع الحكم الذاتي والجهوية الموسعة، لا مجرد سلطة إدارة؟ذ. محمد معروف، جامعة شعيب الدكالي

  • ...
    جيل Z المغربي على ديسكورد: الزخم الرقمي الموهوم والتقاطعات الإيديولوجية المقنعة

    في الشهرين الأخيرين، تحوّل تطبيق ديسكورد من منصة مخصصة للألعاب والدردشة بالمغرب إلى فضاء سياسي بديل لشباب جيل212 Z  ، حيث شكل وجهة لتمرير رسائل مكتوبة ومصممة وصوتية معارضة للنظام، رغم أن الحركة بدأت بمطالب اجتماعية في البداية. لقد تم إنشاء  شبه مجتمع شبكي متشابك بأعضاء يفوقون "مئتي ألف مشارك"، وذلك ليس قصد المناقشة وتبادل الآراء، ولكن قصد إعادة تشكيل أشكال التعبير والهوية والانتماء. إن المعطيات المتوفرة لدينا حول الصورة الرقمية التي يقدمها خادم جيل z لا تعكس واقعًا تفاعليًا حقيقيًا، كما أشرنا إلى ذلك في مقال سابق، تناول طبيعة الحضور الوهمي على المنصة، بل غالبًا ما تقوم على زخم عددي مصطنع، يخفي وراءه حسابات وهمية، وتوجيهًا أيديولوجيًا دقيقًا من قبل مشرفين يتحكمون في الخطاب ومسارات النقاش وإليكم أمثلة في الموضوع.- الزخم الرقمي الموهومتُظهر المعاينة الأولية لخادم Gen Z المغربية على ديسكورد تباينًا حادًا بين الأرقام المعلنة والنشاط الفعلي، ففي غرف مثل #general-chat، قد يتجاوز عدد المتصلين ثمانية آلاف مستخدم، إلا أن المتفاعلين فعليًا لا يتعدون العشرات، وتجد معظم الحسابات تحمل رمز حالة الخمول، أو عدم الإزعاج، بينما الرمز الأخضر الذي يدل على نشاط المستخدم يظل قليلا. وتكشف عيّنات من الحسابات التي تم فحصها، أن كثيرًا منها لم يشارك بأي رسالة منذ انضمامه، وبعضها أنشئ مؤخرًا، مما يثير تساؤلات حول صدق هذه الأعداد وما إذا كانت تمثّل جمهورًا حقيقيًا أم مجرد حضور مصطنع.- الحسابات الحديثة والهبوط العددي المفاجئظهرت خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 2025 موجة ضخمة من الحسابات الجديدة على خادم جيل زيد المغربي، إذ العديد من الحسابات غير المتفاعلة والمنتشرة في الغرف، يظهر إنشاؤها في هذين الشهرين، والظاهرة الأكثر دلالة حدثت أثناء استضافة شخصيات مثيرة للجدل مثل الصحفي توفيق بوعشرين. فقد لوحظ أنه عند انقطاع النيت لدى أحد المشرفين الأساسيين على الخادم، انخفض عدد الأعضاء فجأة من نحو عشرة آلاف إلى أربعة آلاف في غضون ثوان.هذا السلوك الرقمي يشي بوجود بوتات bots   وحسابات وهمية (Sock Puppets) تستخدم لتضخيم عدد الحضور بشكل آلي، فهي حسابات تدار من مستخدم واحد أو أكثر عبر برامج أو متصفحات متعددة، لتوليد انطباع بالحشد الشعبي والتفاعل الجماهيري. و من الناحية التقنية، تسمح آلية التسجيل السهلة في ديسكورد بإنشاء حسابات متعددة عبر بريد إلكتروني فقط. باستخدام برامج VPN وأدوات إنشاء بريد وهمي، و يمكن لأي مستخدم أن يمتلك عشرات الحسابات النشطة في آن واحد، ويديرها عبر حاسوبه او غوغل، نظرا لغياب خاصية “ تبديل الحساب” في تطبيق الهاتف، وبهذه الطريقة يمكنه إدارة مئات الحسابات لخلق انطباع بزخم جماهيري مصطنع، وهي ممارسة مألوفة في “الغزوات الإلكترونية” التي تستخدمها الجماعات المتطرفة في حملاتها الرقمية المنسّقة.- دور المشرفين في توجيه النقاشيلعب المشرفون (Moderators) دورًا حاسمًا في توجيه طبيعة الحوار داخل غرف الدردشات، ففي إحدى الغرف، أرسل أحد الأعضاء نصًا دينيًا وعظيًا يتحدث عن زوال الدنيا، فقام مشرف يُلقب نفسه ب “ غريب جاء من بعيد”، بالرد على المنشور بأن هذا 》النص لا يحمل أي ترويجً ضد النظام- لا السياسي ولا الاجتماعي، بل هو كلام وعظي وديني  من كتب التفسير وغايته تذكير الناس بحقيقة الدنيا وزوالها لا أكثر،《، ودعا إلى منع النقاش حوله بدعوى الحفاظ على وحدة المنصة، كما منع النقاش حول التفرقة بين الديني واللا ديني، معتبرا أن الأمر مجرد اختلاف في الآراء، ولا يجب أن يبعد الأعضاء عن مناقشة قضايا الاستبداد في الحكم. هذا الموقف يكشف عن تحكم رمزي في الخطاب: فالمشرفون لا يكتفون بضبط السلوك، بل يعيدون تعريف ما هو مسموح وما هو ممنوع، ويحوّلون المنصة من فضاء نقاش إلى أداة تعبئة ذات اتجاه واحد، وتنشر سردية معارضة لسياسات الدولة، تقصي الأصوات المخالفة. إنها حالة تعبئة رقمية وإعادة ترسيم للفضاء الرقمي (reterritorialization) حيث يُعاد توجيه الخطاب نحو أهداف سياسية محددة، وتُقمع الأصوات التي لا تتماشى مع السردية العامة.- البنية الأيديولوجية المزدوجةرغم السيطرة التنظيمية الواضحة، فإن الخطاب داخل بعض هذه الغرف ليس متجانسا، حيث توجد النكتة، والسب أحيانا، خصوصا في الغرف الصوتية التي لا تخضع لسلطة مشرفين في غالب الأوقات. كما يلاحظ من التصاميم الأخيرة التي ظهرت على المنصة، وهي تحمل صورة القبضة المغلقة أو الشعارات الاجتماعية ذات الطابع العمالي، أنها من شعارات التيارات اليسارية، وفي المقابل، يظهر أيضًا تيار إسلامي تعبوي على المنصة، يتناول مواضيع مرتبطة بالتحكم، ومعارضة للنظام السياسي، أو قضايا الحرية الإعلامية، والتعبئة السياسية. وبهذا المعنى، تُشكّل المنصة ملتقى أيديولوجيًا تتقاطع فيه الرموز اليسارية والإسلاموية في شكل تعبئة رقمية هجينة، تستغل الخطاب الشعبوي حول إنشاء الملاعب وقضايا الفساد، لتأطير الشباب ضد النظام السياسي القائم. - ديسكورد بوصفه فضاء تعبئة رقمية لجيل Z المغربيتكشف العديد من المعطيات التي جُمعت --ولا يتسع هذا المقال للتفصيل فيها-- أن ديسكورد أصبح أكثر من مجرد تطبيق دردشة، بل مختبراا اجتماعيا أيديولوجيا يحاول اعادة تشكيل الوعي الشبابي، لكن بسردية مؤطرة وحيدة معارضة للنظام السياسي داخل فضاء رقمي مغلق أشبه بغرف الصدى، لا يُسمع فيها سوى الأصوات المعارضة للنظام السياسي، فيما تواجه الآراء المخالفة أو المتحفظة باتهمات جاهزة مثل "الذباب" أو "الزلايجية"، وتنتهي عادة بالإقصاء أو الطرد من الخادم.إن الزخم العددي المصطنع، و الحسابات الوهمية، والتحكم في مسارات النقاش ليست مجرد ممارسات تقنية، بل تعتبر أدوات رمزية تهدف إلى إعادة إنتاج الحشد وصناعة صورة جماعية منسقة لجيل يبحث عن معنى وانتماء في فضاء رقمي متحوّل، لكن السؤال المطروح هو: هل يشكّل هذا النشاط على ديسكورد قوة فعلية قادرة على الانتقال من العالم الافتراضي إلى الواقع، أم أنه يظل ظاهرة صوتية داخل غرف الصدى echo chambers))؟ ما يظهر لنا جليا هو أن أفرادا من الجيل المغربي الجديد، خصوصا المؤطرين منهم، يحاولون إعادة كتابة لغتهم الاحتجاجية الخاصة عبر مثل هذه المنصات، وذلك من خلال مزيج من الرموز، والذكاء التقني، وهم مازالوا في طور البحث عن هوية سياسية معارضة وسط شبكة معقدة ، تتداخل فيها الرقابة الرسمية مع التحديات الإقليمية، في ظل تراجع التمثيلية الحزبية، وفراغ واضح في التأطير البيداغوجي والإعلامي—تحاول التيارات الإسلامية ملأه والاستثمار فيه—، إذ يُفترض أن يوجه هذا الجيل ويمنحه أدوات الفهم والمشاركة الواعية.ذ. محمد معروف، جامعة شعيب الدكالي

  • ...
    جيل 212 Z والجمهور الوهمي: كيف يصنع عدد محدود من النشطاء ثورة افتراضية على ديسكورد

    في فضاء رقمي على منصة ديسكورد أنشأ حساب مجهول يقوم بتغيير اسمه يوميا سيرفر افتراضي قسمه الى غرف للدردشات المكتوبة والحوارات، ويضم السيرفر ثلاثة أنواع من الغرف، هناك غرف مناطقية، نسبة الى المناطق الموجودة بالمغرب، وهناك غرف تهتم بقضايا التعليم والصحة والدردشات العامة، والمثير في هذا الفضاء الذي يسيره الزعيم الصامت، كما يحب أن يصف نفسه، ومجموعة من المشرفين والمٌعزِّزون boosters، أن عدد المنضمّين يزداد يوميًا بوتيرة غير طبيعية، إذ تلتحق بخادم الـ Server آلاف الحسابات بطريقة غامضة ومثيرة للشك، ولنأخذ مثلا غرفة الشات العام الموجودة هناك، فهي مكتظّة بالرسائل الفورية القصيرة والتنبيهات، حيث تتشكّل ثورة جديدة من نوع آخر — ثورة بلا جماهير، بلا تنظيم، ولكن بزخم لغوي ومشهدي يخلق وهم الحشود الرقمية.وعند التصفّح الأول لقنوات "ديسكورد" المرتبطة بنشاط سياسي، يبدو المشهد كأنه غليان شعبي؛ حيث تظهر مئات من الرسائل المتتابعة، والرموز، والنداءات والاحتجاج، وأوامر التشغيل عبر الشبكة الافتراضية، غير أن التدقيق يكشف العكس تمامًا: فالمحادثات لا تتفاعل، والرسائل لا تتحاور، بل تُلقى دفعة واحدة كما لو كانت حملة رقمية آلية مصمَّمة لمحاكاة التجمهر.* وهم الجماعة الرقميةما يبدو كمشاركة جماهيرية واسعة ليس سوى محاكاة رقمية للفاعلية الاجتماعية، فعدد محدود جدًا من النشطاء — قد لا يتجاوز العشرات— يدير مئات الحسابات الوهمية أو المتعددة، يضخّون من خلالها رسائل سياسية قصيرة ومكررة لإيهام المتصفّح بوجود حركة جماهيرية واسعة. هذه التقنية تُعرف بـ التأطير الاصطناعي للجمهور (Astroturfing)، أي صناعة تفاعل زائف لإيهام الرأي العام بأن هناك حراكًا تلقائيًا.يتمّ تضخيم هذا الوهم من خلال بنية "ديسكورد" نفسها، حيث تعمل خوارزميات الإشعارات والمحادثات المتزامنة على تضخيم الإحساس بالزخم والتفاعل، حتى وإن كان مصدره شخصا واحدًا يدير عشرات المعرفات.* الخطاب المفكك والتأطير الانفعاليإن اللغة المستعملة ليست عشوائية، بل محسوبة بعناية: فوضوية، ومشحونة بالعاطفة، ومتقطعة الإيقاع. إنها استراتيجية تواصليّة هدفها تفكيك المعنى وإشباع الفضاء الخطابي بالضجيج. لا يهم أن تكون الرسالة مفهومة، المهم أن تثير إحساسًا جماعيًا بالاحتقان. هنا قد يتحول المستخدم إلى ترول، وقد يتحوّل "الترول" من سلوك عبثي إلى وظيفة تنظيمية، دوره إبقاء الفضاء في حالة انفعال دائم، ومنع أي نقاش عقلاني أو نقدي من الاستقرار.المؤسسة الظليةورغم المظهر الفوضوي، هناك تنظيم خفي واضح. إن المشرفين يصدرون أوامر، ويحذفون الرسائل، ويوجهون النقاشات، ويوزعون المهام. خلف الستار، فتعمل بنية مؤسسية مصغّرة: بمسؤولين، ومنسقين، ومراقبين، وقنوات فرعية متخصّصة.إنها ليست فوضى، بل بيروقراطية رقمية ذات طابع ديني-أخلاقي، تحافظ على الانضباط من خلال مفردات الإيمان، والولاء، والتضحية.* التعبئة العاطفية بدل الفعل الاجتماعيما يجري هنا في فضاء جيل z212 ليس حركة اجتماعية، بل ما يمكن تسميته بـ "الجمهور العاطفي" (Affective Publics) — جماعة تتوحّد حول انفعال مشترك، لا حول مشروع سياسي أو مطالب اجتماعية/سياسية واضحة. وفي هذا السياق، يصبح الانفعال بحدّ ذاته رأسمالًا رمزيًا يُستثمر في إنتاج الانقسام والتعبئة. إنها ليست ثورة، بل مسرحة للثورة (Dramatization of Revolt) — عرض رمزي يتغذّى من صور الاحتجاج دون أن يملك أدواته الواقعية.* من الشات إلى الشارع؟لا يكمن الخطر الحقيقي في انتقال هذه الحملات إلى الواقع فقط، بل في إعادة تشكيل الإدراك الجمعي. فحين يتكرّر الخطاب ويُعاد تداوله عبر آلاف الحسابات، يُصبح الوهم حقيقة إدراكية. وهكذا، تتحول المنصات الرقمية إلى مختبرات لتجريب السخط، تُدار فيها العواطف كأنها موارد سياسية.الخلاصة إن ما نراه على منصة "ديسكورد" ليس جمهورًا بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، بل بنية خطابية مبرمجة تهدف إلى إنتاج مظهر الجماهير . هذا جيل جديد من الثورات لا يبدأ من الشارع، بل من الأكواد البرمجية، ومن النصوص القصيرة، ومن الإيقاع الصناعي للغضب على غرار ما يقع في غرف الصدى الجهادية على المنصات المشفرة. وفي زمن "الذكاء الاصطناعي"، يمكن لخمسة أفراد أن يبدوا كوطن غاضب.ذ. محمد معروف

  • ...
    موسم مولاي عبد الله.. حين تتحول الأرقام إلى دعاية لا تعكس الواقع

    أثار البلاغ الصحافي الصادر عن اللجنة المنظمة لموسم مولاي عبد الله الكثير من الجدل، بعدما تحدث عن رقم معاملات يفوق 5 مليارات سنتيم (50 مليون درهم) خلال الموسم، معتبرًا إياه "رافعة اقتصادية كبرى". كما لمّح البلاغ إلى استقطاب "مئات الآلاف من الزوار"، في وقت يتم تداول أرقام خيالية تتحدث عن ملايين الوافدين. غير أن قراءة موضوعية للمعطيات الميدانية تكشف أن هذه الأرقام لا تعدو أن تكون مبالغات دعائية أكثر من كونها مؤشرات دقيقة.فضاء محدود.. فكيف لملايين الزوار أن يتدفقوا؟يقام موسم مولاي عبد الله في فضاء لا يتجاوز 5 إلى 6 كيلومترات مربعة، وهو مجال لا يمكنه أن يستوعب أكثر من 500 ألف زائر في اللحظة الواحدة. وحتى لو تم افتراض امتلاء هذا الفضاء عن آخره يوميًا، فإن مجموع الحضور لن يصل بأي حال إلى 6 ملايين شخص كما يروّج البعض.للمقارنة فقط، فإن مهرجان موازين بالرباط، الذي يستند إلى بنية تحتية قوية ومدينة كبيرة ، لا يتجاوز في أفضل دوراته 3 ملايين زائر، فكيف يعقل أن يستقطب موسم تقليدي ببنية هشة ضعف هذا الرقم؟رقم معاملات مبالغ فيه... ؟؟أما الرقم المعلن بخصوص 5 مليارات سنتيم، فيصعب تقبله بالمنطق الاقتصادي.إذا افترضنا وجود 2000 بائع داخل الموسم، فإن هذا الرقم يعني أن كل واحد منهم حقق معاملات تفوق 25 ألف درهم خلال تسعة أيام فقط، وهو ما يتنافى مع القدرة الشرائية للفئات الشعبية التي تشكل غالبية الزوار.كما أن غياب أي نظام للفوترة أو المراقبة يجعل من المستحيل الحصول على تقديرات دقيقة، ما يجعل الأرقام المعلنة أقرب إلى التخمينات السياسية منها إلى الإحصاءات العلمية.البنية التحتية لا تدعم الأرقامالموسم يفتقر إلى مواقف سيارات منظمة، مرافق صحية كافية، أو وسائل نقل عمومية يمكنها استيعاب ملايين الوافدين المزعومين. كما أن الطاقة الاستيعابية للمنازل  المعدة للكراء في المنطقة محدودة جدًا، ما يجعل الحديث عن أعداد خيالية من الزوار أمرًا يفتقد إلى أي منطق واقعي.بين الأسطورة والواقعلا شك أن موسم مولاي عبد الله حدث تراثي واجتماعي كبير، يسهم في تحريك عجلة التجارة المحلية بشكل ظرفي، ويمنح المنطقة إشعاعًا سياحيًا. لكن الحقيقة أن التضخيم في الأرقام يفقد الموسم مصداقيته بدل أن يعززها.الأجدر بالمسؤولين هو تقديم إحصاءات دقيقة وشفافة، وربطها بمشاريع تنموية ملموسة لتحسين البنية والخدمات، بدل الاكتفاء بـ"أرقام دعائية" لا تقنع سوى من يروجها.بين بلاغ رسمي يتحدث عن 5 مليارات سنتيم وملايين الزوار، وواقع ميداني يشي بعكس ذلك، يظل موسم مولاي عبد الله بحاجة إلى تقييم موضوعي يضعه في حجمه الطبيعي، لكنه ليس الأسطورة الاقتصادية التي يصورها الخطاب الرسمي.

  • ...
    موسم مولاي عبد الله… تكدّس، غياب تنمية، وأزمة كرامة بشرية

    في كل صيف، يتدفق مئات الآلاف، بل الملايين، نحو موسم مولاي عبد الله أمغار، ذلك الحدث التراثي الذي يمتد لأكثر من عشرة أيام ويستقطب ما بين 4 إلى 4.5 ملايين زائر، مع توقعات بتجاوز 5 ملايين هذا العام. مشهد الطرقات يصبح لوحة فوضوية: مئات السيارات عالقة في طوابير لا تنتهي، شاحنات وطريبورطورات مكتظة بالبشر، وازدحام خانق يجعل التنقل مهمة شبه مستحيلة.على مساحة تفوق 120 هكتارًا، تُنصب 25 ألف خيمة ويشارك أكثر من 2200 فارس ضمن 126 سربة (في بعض الدورات وصل العدد المتوقع إلى 25 ألف فارس). هذه الأرقام تكشف حجم الحدث، لكنها في الوقت نفسه تفضح الهوة الكبيرة بينه وبين البنية التحتية اللازمة لاستيعابه.ورغم أن الموسم يحقق رواجًا اقتصاديًا ضخمًا يقدَّر بما بين 70 و100 مليار سنتيم في عشرة أيام فقط، فإن مظاهر التنمية الأساسية تبقى شبه غائبة. هنا يظهر تناقض صارخ: ملايين الزوار، مليارات تتدفق، وغياب حلول بسيطة تضمن الكرامة الإنسانية.أحد أبرز أوجه القصور يكمن في النقص الحاد في المراحيض العامة. آلاف الزوار يضطرون للبحث عن أماكن معزولة على الشواطئ، بين الصخور أو خلف الخيام لقضاء حاجاتهم، في مشهد يفتقر لأدنى شروط الصحة والنظافة. ومع مشاركة آلاف الخيول في "التبوريدة"، تتضاعف المشكلة بانتشار الفضلات الحيوانية في فضاء الموسم، ما يزيد من الروائح الكريهة والمخاطر الصحية.مقارنة مع معايير المهرجانات الدوليةفي مهرجانات عالمية كـ مهرجان "غلاستونبري" في بريطانيا (200 ألف زائر فقط)، يُخصص مرحاض واحد لكل 100 شخص، مع فرق صيانة على مدار الساعة ومناطق غسيل يدين مجهزة. أما في مهرجان "أوكتوبيرفست" في ألمانيا (6 ملايين زائر خلال 16 يومًا)، فتنتشر المراحيض المتنقلة والثابتة كل 100 متر تقريبًا، وتُراقب وتُنظف بشكل مستمر.في المقابل، يستقبل موسم مولاي عبد الله ملايين الزوار دون بيانات رسمية دقيقة عن عدد المراحيض، لكن الشهادات الحية تؤكد أن النسبة لا تتعدى مرحاضًا واحدًا لكل عدة آلاف من الأشخاص، إن وُجد أصلاً في بعض المناطق. هذا يعكس فجوة تنظيمية واضحة، ليست في عدد الزوار بل في غياب رؤية تخطيطية وخدمات أساسية تراعي الصحة العامة وكرامة الإنسان.تساؤلات جوهريةكيف يُعقل أن حدثًا بهذا الحجم الاقتصادي والبشري لا يوفّر الحد الأدنى من المرافق الصحية؟أين يقضي ملايين الزوار حاجاتهم الطبيعية في ظل هذا النقص الفادح؟هل تُحسب تكلفة الأضرار البيئية الناتجة عن الفضلات البشرية والحيوانية في ميزانية الموسم؟لماذا لا تُستثمر جزء من عائدات الموسم في إنشاء بنية تحتية دائمة أو على الأقل حلول متنقلة وفق المعايير الدولية؟ختامًا، إذا كان موسم مولاي عبد الله علامة تراثية كبرى، فإنه يستحق أن يكون أيضًا نموذجًا للتنظيم العصري، بتوفير مراحيض متنقلة كافية، ونقاط مياه، وخطط مرور ذكية، حتى يظل الاحتفاء بالتراث مقرونًا بصون الكرامة والبيئة معًا.

  • ...
    تنامي حوادث القنص في المغرب.. بين غياب التأطير وتعطيل القوانين

    يشهد موسم القنص في المغرب، مع بداياته كل سنة، ارتفاعًا لافتًا في عدد الحوادث المرتبطة بسوء استعمال السلاح، مما يطرح تساؤلات جدية حول مدى تأطير هذه الممارسة وضبطها قانونيًا وأخلاقيًا. فالقنص، الذي كان يُنظر إليه تاريخيًا كرياضة تراثية ومجال يحترم فيه الإنسان التوازن البيئي، أصبح في الكثير من الأحيان مصدر تهديد للأرواح وللتنوع البيولوجي، نتيجة غياب التكوين، وانعدام الوعي بالقوانين المنظمة، وضعف الرقابة على من يمارسونه.المرجع القانوني الأساسي الذي يُفترض أن يُنظم عملية القنص بالمغرب هو الظهير الشريف الصادر بتاريخ 15 يوليوز 1923، والذي ينص بوضوح في أحد مواده على ضرورة اجتياز القناص امتحانًا قبل منحه رخصة القنص، وذلك ضمانًا لتوفره على معارف قانونية وتقنية وأخلاقية تخول له حمل السلاح واستعماله بطريقة مسؤولة. لكن في الواقع، فإن هذا النص، رغم أهميته التاريخية والتشريعية، لا يتم تفعيله بالشكل المطلوب، حيث تمنح الرخص غالبًا بمجرد أداء الرسوم السنوية والانخراط في جمعية قنص، دون أي شرط معرفي أو اختبار تقني. هذا التهاون في التطبيق ساهم بشكل مباشر في ارتفاع عدد القناصة الذين يجهلون القوانين، ولا يمتلكون أي تكوين حول وسائل السلامة أو طبيعة الطرائد، ما جعل عددًا منهم يتحول إلى مصدر خطر فعلي داخل المجال الغابوي أو القروي.الجمعيات المحلية للقنص، والتي يفترض أن تلعب دورًا محوريًا في تأطير أعضائها وتوعيتهم، أصبحت في أغلب الحالات مؤسسات شكلية تكتفي بجمع انخراطات سنوية دون تقديم أي برنامج تكويني أو عقد جموع عامة شفافة، بل إن بعضها لا يحترم حتى الحد الأدنى من الشفافية القانونية، وهو ما يزيد من ضعف الثقة بين القناصة والإطار الجمعوي. وتغيب عن هذه الجمعيات أي مبادرة للتوعية أو التحسيس، بل تُسجل عليها حالات تقاعس واضح عن إبلاغ أعضائها بالقوانين الجديدة أو المستجدات التنظيمية التي تصدرها الجهات الوصية، مما يخلق فراغًا في التواصل والإرشاد.أما الجامعة الملكية المغربية للقنص، وهي المؤسسة الوطنية المكلفة بالسهر على تنظيم وتطوير هذا القطاع، فهي الأخرى لا تقوم بدورها كما ينبغي. فعدد الدورات التكوينية التي تنظمها يبقى محدودًا جدًا، كما أن حضورها في مراقبة أداء الجمعيات أو الدفاع عن مصالح القناصة ضعيف إلى منعدم. لا تسهر الجامعة على تفعيل الجانب التكويني المنصوص عليه في الظهير الشريف، ولا تسعى إلى فرض شروط تأهيل حقيقية على من يطلبون رخصة القنص لأول مرة. كما أن دورها في الدفاع عن القناصة، خصوصًا في ملف ارتفاع أسعار الخرطوش أو توفير التأمينات المناسبة، يكاد يكون غائبًا. هذا الضعف في التمثيلية يترك القناص وحيدًا أمام ارتفاع التكاليف، دون دعم مادي أو قانوني، مما يخلق شعورًا عامًا بالتخلي والإهمال.كل هذه الاختلالات مجتمعة ساهمت في خلق واقع غير منضبط لممارسة القنص، واقع تحكمه الفوضى في بعض المناطق، وتتكرر فيه الحوادث، وتُسجَّل فيه اعتداءات على الطرائد المحمية، واستعمال وسائل قنص ممنوعة، وانتهاكات واضحة لحرمة البيئة والسكان. ومما يزيد الوضع سوءًا أن أغلب القناصة الجدد لا يخضعون لأي تأطير، ويمارسون القنص كأنهم في فضاء بلا قانون أو توجيه. وهذا ما يحوّل القنص من نشاط ترفيهي راقٍ إلى تهديد محتمل للأمن البيئي والاجتماعي.إصلاح هذا القطاع يبدأ بتفعيل نصوص قانونية موجودة منذ أكثر من قرن، وعلى رأسها شرط اجتياز الامتحان قبل الحصول على الرخصة، وفق ما ينص عليه ظهير 1923. وهذا الامتحان لا يجب أن يكون شكليًا أو إداريًا، بل ينبغي أن يكون متكاملًا، يجمع بين تكوين نظري في القوانين البيئية وسلوكيات القنص المسؤول، وتكوين عملي في استعمال السلاح والتعامل مع المواقف الخطرة. كما أن الجمعيات مطالبة بتحمل مسؤوليتها في تأطير أعضائها، تحت مراقبة فعلية من طرف الجامعة ومصالح المياه والغابات. ومن الضروري أيضًا أن تُعيد الجامعة هيكلة أدوارها، وتتحول من جهاز إداري إلى مؤسسة مرافعة وتكوين ومواكبة حقيقية. ولا يمكن الحديث عن تنظيم قطاع القنص دون التفكير في الجانب الاجتماعي والاقتصادي للقناص، حيث يجب دراسة إمكانية دعم أسعار الخرطوش، وتوفير التأمين، وتحسين ظروف ممارسة هذه الهواية بما يعيد لها قيمتها الثقافية والبيئية.إن القنص ليس مجرد هواية أو وسيلة للترفيه، بل هو مسؤولية كبيرة على عاتق كل من يمارسه، تجاه نفسه، وتجاه المجتمع، وتجاه الطبيعة. وتفعيل القوانين القائمة، وعلى رأسها مقتضيات ظهير 1923، ليس مجرد إجراء قانوني، بل خطوة أساسية نحو تنظيم ممارسة القنص، وضمان سلامة الجميع، وحماية رصيدنا البيئي، وإعادة الاعتبار لمفهوم القنص المسؤول.الجديدة بتاريخ 03 غشت 2025.بقلم : أيوب محفوظ

  • ...
    عبد الإله نادني يكتب.. صيفٌ باهت على شواطئ الجديدة

    المدينة التي اعتادت أن تستقبل الصيف بزحامٍ يملأ شوارعها وصخب يكسر هدوء أحيائها، تجلس هذا العام في هدوء سياحي يكاد يكون مُريبا. شواطئ الجديدة، تلك التي طالما كانت ملاذًا للهاربين من لهيب المدن الداخلية، تنتظر زوّارًا تأخّروا في القدوم. توافدٌ "خافت" – كما يصفه المراقبون – لا يُبشر بالانتعاشة الاقتصادية التي طال انتظارها، ولا بالطفرة المالية التي يحلم بها التاجر والساكن على حد سواء. منتصف شهر يوليوز يجيء، وجيوب  أصحاب "الدور المعدة للكراء" مازالت فارغة، وما فنادق المدينة باحسن حال فهي تتذكّر اياما مضت كان فيها "ملء البيوت" هو القاعدة لا الاستثناء. حتى الازدحام الصيفي المألوف، ذلك المؤشر الحيوي، غدا ذكرى يرويها المتتبع العادي باندهاش.وراء هذا الهدوء الحذر ، قصصٌ من الإحباط تتشابك. زوّارٌ يجدون أنفسهم في دوّامة لا تنتهي من الطرقات المعطوبة، بين إصلاحٍ هنا وحفرٍ هناك، تُنهكهم وتُتلف سياراتهم رويدًا رويدًا، فتُسلب منهم راحة الرحلة منذ البداية. آخرون تُصدّهم صورة المدينة حين تطل عليهم  حاويات أزبال تفوح منها روائح تزكم الأنوف خصوصا مع ارتفاع الحرارة هذا إن لم تكن غائبة بالمرة ، او يحاصرهم حراس  سيارات بكلام ساقط او ……فيندفع  الزائر المُحتمل هاربا موليا  وجهته قبلة اخرى قبل أن تطأ قدماه رمال الشاطيء، خصوصا مع الغلاء المبالغ فيه، هذا العدو القاسي الذي يحول دون أحلام الطبقة الوسطى التي  تُشكل عماد السياحة الداخلية؛ فقضاء عطلةٍ بحرية، رغم شدة الحرارة، اصبح  "رفاهية" و"ضربًا من الخيال" أمام جيوبٍ أنهكها ارتفاع كلفة العيش. نتيجة هذا كله: اقتصاد مدينةٍ يتلقى ضربة موجعة، وقدرة شرائية تتراجع، وسائحٌ لم تعد الجديدة قادرةً على تقديم البديل المتطور الذي يبحث عنه في "متنفسه" الصيفي.بالمقابل، تطلّ علينا مدن اخرى كمدينة أكادير من الجنوب لتقدم درسًا بليغًا. رغم اشتراكها في تحديات الغلاء وتدني القدرة الشرائية، إلا أنها تشهد هذا الصيف إقبالًا سياحيًا "منقطع النظير". السر؟ سياسة سياحية واضحة المعالم، تقوم على ركائز متينة: تنظيم قطاع الكراء بأسعار معقولة، ومراقبة صارمة لأسعار الخدمات وجودتها في المقاهي ومرافق الاستقبال، واستثمارٌ في بنية تحتية لائقة، وتنويعٌ للمنتوج السياحي الذي يتجاوز مجرد البحر ليشمل الفنادق والمنتزهات وغيرها. لقد فهمت أكادير أن السائح اليوم يطلب أكثر من مجرد شاطئ.أما في الجديدة، فالكلام عن "سياسة سياحية" أو "برامج" طموحة، سواءً أكانت قصيرة أم بعيدة المدى، يبدو كحديثٍ من ضرب الخيال. الاعتماد على البحر والشواطئ الطبيعية كرافعة وحيدة للسياحة قد تجاوزه الزمن ولم يعد كافيًا  في سباق الوجهات السياحية الأخرى. البحر الجميل لا يعوّض عن طرقٍ مهشمة، ولا ينظّف شوارعًا ملوثة، ولا يخفف من غلاءٍ خانق، ولا يخلق تجربةً متكاملة. النهج الحالي يحتاج إلى مراجعة عاجلة. على المجلس الجماعي والفاعلين تبني "مقاربات أخرى أكثر نجاعة"، مستلهمين العبرة من نجاحاتٍ قريبة. الجديدة مدينةٌ تستحق أكثر من أن تظلّ تنتظر زوّارًا قد لا يأتون، بينما بحرها الجميل يهمس بأمواجه: "أنا هنا، لكنّي لستُ وحدي كافيا". حان وقت الفعل قبل أن يتحول الصمت الصيفي لهذا العام  إلى واقع دائم.

  • ...
    السلوك الاحتجاجي لدى ساكنة أيث بوكماس بين قيم الحداثة وقيم التقليد

    ظهرت مجموعة من الأطاريح العلمية التي حاولت فهم السلوك الاحتجاجي لدى المواطنين، بين الفعل العقلاني الفردي والفعل الجمعي الجماهيري. حيث يختلف السلوك الاحتجاجي للعامل أو الموظف، أو المواطن غير المنخرط في تنظيم؛ بين الوعي الطبقي ووجود المصلحة، وبين تأثير الروابط الاجتماعية وأشكال التضامن التقليدي. يحدد مستواه وتأثيره ونضجه حجم الحرية مقابل أشكل القمع والسلطوية، وحجم التأطير النقابي والحزبي، وتأثير القبيلة والجماعة على الأفراد. تربط أطروحة الفعل الجمعي بالطريقة التي نظر لها غوسطاف لوبن، السلوك الاحتجاجي بروح الجمهور؛ كيف ما كانت نوعية العمال وكيف ما كانت ثقافتهم ونمط حياتهم ودرجاتهم في العمل، وكيفما كانت اهتماماتهم وذكاءاتهم، فإن مجرد تحويلهم إلى جمهور يصبحون كتلة واحدة، يتحركون بطريقة مختلفة عن الطريقة التي كان يتحرك بها كل فرد منهم منعزل عن الآخرين، أي يوجد نوع من العدوى التي تنتشر بين الجمهور تجعل الجميع ينصهرون في قالب واحد، يتعاطفون بينهم ويتصرفون بطريقة جماعية.لكن هذه الأطروحة لا تجيب عن الطريقة التي يتم بها تأسيس الجماهير، قد يكون بتأثير الزعيم المفوه وبالخطاب السياسي المثالي الذي يحول الناس العاديين المختلفين إلى جمهور منسجم. حيث يؤثر القائد في البداية على الجماهير، لكن بعد ذلك تقوم هي بالتأثير فيه وتوجيهه بحسب عقلها الجمعي. كما أن الأطروحة تتحدث عن البدايات الأولى للحركات الاحتجاجية قبل أن تتحول إلى مشاريع سياسية وتنظيمات مثقلة بتحديات الواقع.أما أطروحة الفعل العقلاني الفردي لدى ماكس فيبر والتي طورها ريمون بودون، فهي تربط الاحتجاج بحجم وعي المواطن بمصلحته الخاصة، فالفائدة والمصلحة هو من يحدد سلوك الأفراد. وفي الفعل الاحتجاجي دائماً ما يوجد مصلحة مرتقبة يصبو الموظف والعامل الحصول عليها. لكن هذا التفسير للسلوك الاحتجاجي لا يراعي الظروف السياسية والاجتماعية وتأطير التنظيم وتأثير الرأي العمومي.من الأطروحات المهمة التي أيضاً حاولت فهم السلوك الاحتجاجي ما جاءت به مدرسة السوسيولوجيا شيكاغو. حيث الأهداف المشتركة للمحتجين مدعاة للاحتجاج، فالعامل والمواطن هو شخص واع ومسؤول عن أفعاله ويقدر حجم الخسائل والأرباح، وطبيعة موازين القوى التي تحدد مستوى التفاوض. وبالتالي الذي يجمع الناس حول قضايا مشتركة هي المصلحة الخاصة. هي أطروحة تختلف عن سيكولوجيا الجماهير بكون الجماهير عاقلة تستطيع أن تحقق مطالبها بدون تأثيرات سيكولوجية.إلا أن كارل ماركس يرى أن قيام الثورة ونجاحها يتحدد بحجم الحرمان وحجم الانتظارات المحفزة للناس وفق ترقبات اقتصادية في ظل غياب التنمية وبوجود القمع والاستبداد. حيث إن الفارق بين تطلعات الفاعلين الاجتماعيين وواقعهم المعيش هو الذي يؤدي لظهور حركات احتجاجية جماهيرية. لكن أهم شيء يدعو للاحتجاج حسب كارل ماركس هو الشعور بالحرمان، بمعنى أن الموَلد للاحتجاج ليس الحرمان نفسه بل الشعور به، وهو شعور لا يمكن استشعاره إلا بحجم الوعي الطبقي والمستوى التعليمي وحجم التأطير السياسي.  لهذا تعد الطبقة المتوسطة أكثر الطبقات احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية، من جهة لأنها قريبة من الطبقة الفقيرة وتطل على معاناتها، ومن جهة ثانية هي تطل على الطبقة البرجوازية وترى حجم المحفزات ومستوى الرفاهية، ثم هي أكثر وعياً بأدوات الصراع ونمط المفاوضات.لكن متى تؤدي الاحتجاجات في البادية المغربية إلى تحقيق مكاسب حقيقية؟  تحدث خالد تيكوكين رئيس الجماعة الترابية وأحد قيادات المسيرة الاحتجاجية لآيث بوكماس، التي انطلقت صباح 9 يوليوز 2025 واستمرت خمسة أيام، قطع خلالها المحتجون ما يقارب 80 كلم مشياً على الأقدام إلى حين الوصول إلى عمالة أزيلال؛ تحدث عن وجود احتجاجات يومية تقوم بها الجماعات المجاورة وأغلب الدواوير وبأشكال مختلفة، وأن عمالة أزيلال تشهد يومياً وقفات احتجاجية ومسيرات، لكن أن يخرج ثلاث آلاف مواطن من 28 دوار ويقطعون الوديان والجبال سيراً على الأقدام وبشكل منظم، فإن ذلك سيكون له تداعيات ونتائج مختلفة على الساحة المحلية والوطنية.  يمثل خالد تيكوكين صفة المناضل الذي يتزعم المحتجين ويضحي أكثر من الآخرين، دخل غمار المواجهة مع كل أنواع السلطوية في المنطقة، كما يدخل في مواجهة مع حُماة الانتخابات الذين يحرصون أشد الحرص على عدم إثارة المطالب والأسئلة الكبرى حول التنمية والمواطنة السياسية، يحصُرون الانتخابات في موائد العشاء ومبالغ مالية بسيطة، ويتعاملون مع المناطق الجبلية خزانات انتخابية كونها تعيد انتاج "الفلاح المدافع عن العرش".تعد مسيرة بوكماس مشجعة على الاحتجاج وداعية لمزيد من النضال، حيث خرجت يوم الاثنين 15 يوليوز 2025 ساكنة دواوير تكين، توفنرار ولجماعة أكوديد نلخير بإقليم أزيلال، مسيرة احتجاجية أخرى مشيًا على الأقدام نحو مقر العمالة، للمطالبة بفك العزلة التي تعيشها المنطقة منذ سنوات، كما خرجت مسيرات كثيرة تطالب بالكرامة والعدالة المجالية.في الفعل السياسي الحداثي وفي ظل الممارسة السلمية فإن التضحية ليست كبيرة، وأنه غير مطلوب وجود الرجل الخارق الذي يحقق مطالب الناس بطريقة سحرية، حيث المطالب بسيطة تتعلق ببناء المدرسة والمستشفى والطريق، لهذا حجم الموارد المعنوية التي سيحظى بها القائد لا تتجاوز أصوات الناخبين المشروعة في ظل الديمقراطية المحلية. لإن المناضل عليه أن يستفيد من شيء ما قد لا يكون مادياً، كأن يكون هو الإمام والقائد والزعيم في المستقبل، فيحظى بالشهرة والمكانة، كما يمكن له الاستفادة من الجماهير وتحويلهم لمشروع سياسي. يعاب على خالد أنه يقوم بحملة انتخابية سابقة لأوانها ويسعى لكسب الحظوة والحصول على أصوات انتخابية. لما لا والديمقراطية تفرض التنافس بين الأحزاب والنخب في خدمة مصالح المواطنين، ومن يستطيع الدفاع أكثر عن حقوقهم فإنه يحظى بالمكانة ويكتسب ثقة الشعب. إن خالد يسعى بطريقة ديمقراطية لكسب ثقة المواطنين عكس الأحزاب الإدارية التي تكرس الفقر والهشاشة وتلتقي مع أهداف النظام المخزني في الإبقاء على الجهل والأمية والفقر من أجل شراء ذمم الناخبين إثر كل استحقاقات سياسوية، لأن التنمية تحقق الحرية والكرامة ضداً على كل أنواع الفساد والاستبداد.يمثل خالد ذلك القائد الحداثي الذي تدخل في وقت تشكل الجمهور فأعاد بناء الجمهور وصياغة مطالبه بطريقة جديدة. حيث سيكولوجيا الجهور بدأت عند الخروج من الدواوير وبعد تشكل الاحتقان والشعور بالظلم، لكن لا يكفي أن يقود الجمهور نفسه بنفسه، بل لابد له من قائد يمثل مطالبه أحسن تمثيل ويحسن إدارة التنظيم، لهذا فخالد جزء من هذا الجمهور ينتمي إليه ويعيش على معاناته. حيث يمكن لخالد بما يمتلك من وعي ومن مستوى مادي أن ينتقل للعيش خارج بوكماس، في أحسن المدن التي تعرف التنمية مثل العاصمتين سواء السياسية أو الاقتصادية، لكنه فضل البقاء وسط المواطنين والتواصل اليومي معهم. لهذا يعد قائداً يهتم بمشاكل الساكنة، وليس ذلك البرلماني أو رئيس الجماعة التي يعيش في المكاتب المكيفة بعيداً عن معاناة المواطنين.   من مواصفات المسيرة الاحتجاجية التي نظمها ساكنة آيث بوكماس في اتجاه إزيلال وجود روح التضامن الاجتماعي داخل كل دوار على حدىً، وبين الدواوير بعضها البعض، حيث الرابط القبلي ساعد على استمرار التضامن واللحمة وساهم في تعزيز الشعور بالظلم وجعله مدعاة للاحتجاج المتواصل. فأحيانا لا يشعر الفرد بالقهر الذي يعيشه ولكن قد يستفزه معاناة الآخرين أكثر من معانته هو، لهذا يسعى ما أمكن لدفع الظلم على جيرانه وعائلته. كما يوجد نوع من الوعي التنظيمي الذي أصبح ينمو عبر كل احتجاج، حيث اختار كل دوار لجنة تنوب عنه ومجلس جماعي يضم ممثلين عن كل دوار. بذلك يمكن القول أنه ليس دائما ما يكون الانتقال من تنظيم القبيلة أو الجماعة إلى تنظيم الجمعية، بل يمكن الجمع بين التنظيمات الجديدة وأنواع الروابط التقليدية الداعمة للتضامن.   أيضا مما يدل على أن القيم التقليدية يمكن أن تكون مولدة للفعل السياسي العمومي هو ارتباط النخب بقريتهم، فرغم وجود عوامل كثيرة طاردة للنخب ومشجعة على الهجرة فإن مناسبات كثيرة منها الأعياد والعطلة الصفية تجعل هؤلاء النخب يعودون للقرية فيُحيون النقاش من جديد حول تردي الأوضاع وازداد التهميش. هؤلاء النخب الذين فضلوا العيش في مدن حضرية متقدمة لازالت تربطهم أواصل القرابة وروابط القبيلة والعائلة مما يجعلهم مهتمين بأوضاع المنطقة أكثر من غيرهم، ويجعلهم مساهمين في الاحتجاج ومنظمين له. يقول بعض العلماء بوجود علاقة سببية بين الثقافة السياسية والنظام السياسي، وأن كل ثقافة تنتج النظم السياسي الذي يمثلها، كما حسب البعض أن الثقافة السياسية للشعوب العربية هي ثقافة الولاء والخضوع، الذي أنتج أنظمة سلطوية، يقول بذلك هشام شرابي من خلال أطروحته حول النظام الأبوي ويقول بذلك عبد الله حمودي من خلال خطاطته الشيخ والمريد ويقول بذلك الجابري من خلال تحليل العقل العربي ويقول بذلك حنفي من خلال البحث في الثقافة الفارسية. إلا أنه يوجد قيم تقليدية في البادية المغربية مرتبطة بقيم عزة النفس والكبرياء وعدم القبول بالطاعة غير المشروطة، قد لا تكون قيماً منتجة للنظام الديمقراطي لأنها لا تتضمن قيم الاختلاف والتعددية والوعي الطبقي؛ إلا أنها تنتج سلوكاً احتجاجياً مهماً قد يحقق مكاسباً حقيقية.